كعادته شهر شباط لا يستقر على حال و لا يثبت على موّال، طالعنا في أيامه الأولى بجنون الغضب ، رياح عشواء و ثلوج و عواصف، واهتزت الأرض وكأني بها قد ضاقت ذرعاً من الأحمال و الأعمال، ودّعت بلادنا أحبة، زهوراً و نجوماً و أقمارًا …أعادتها الأرض الى أحضانها بشدّة كالأم التي تنتزع أبناءها من أيدي الغرباء، أفلت منهم من كتب له حياة جديدة و غادر من كبا بين ذراعَي أمه و طاب له المبيت!
في بلادنا الموت و الحب متلازمان، كأنْ تحبّ وطنك ولا تتوانى عن الموت في سبيله، المحبون لا يخشون في حبهم ناراً و لا بارودا و لا رماحاً ، أحببنا الأرض فرويناها بالدماء، أحب المتيمون من قبلنا فخلّدوا حبهم الأسطوري في المعلقات العذرية، بلادُ الحب لم تزل بالحب تحيا، يجمعنا المصاب و الوجع و الأنين، في كل مرة تدق النوائب أبواب أوطاننا نهب يداً واحدة، رغم قسوة الطاغي، رغم ظلم الغازي، رغم خيانة الأقارب و السوس الذي ينخر في الحنطة المخزونة في ديارنا، رغم كل شيء تنتصر إنسانيتنا لتطفو على بحرِ الصعاب، تبني جسوراً من حب و قمح و دفء ، تمتد ذراع الحب و الوفاء الى الذراع المصاب، تبلسم بالعطف و المودة آلام الاطفال و تداوي جراح الثكالى و تطبطب على الرجال التي ما اعتادت الدموع يوماً…
لم يحجب غبار الدمار و الموت و الخوف شمس الحب في شباط، أشرقت في يومه المشؤوم شموسٌ من الحب، و اعادت كما في كل مرة تذكرنا أن الإنسانية أسمى ما في الحب، و ان الوفاء اكليل غارٍ على رؤوس المحبين وشرفٌ و وسامٌ لا يناله إلا ذو حظّ عظيم، نحن لم نعرف للعيد يوماً، من يعرف الحب جيداً رآه في ذلك اليوم، في نخوة الجار و القريب و الصديق، في وفاء الحيوانات التي تشتم رائحة أصحابها من بين الركام، نحن لا نحتاج للحب عيدا، ولا للمودة يوما، ولا للعشق نهاراً… لنا مع كل طلوع شمس نرى فيه وجوه أحبتنا عيد، وفي كل صباحٍ يشرق برضا والدينا عيد، ومع كل سجدة للخالق و ترتيل آيات لطفه عيد، ولنا في قلوبهم الف هدية و مع الكلام لكل حدثٍ بقية…