كتب علي أنوزلا: خطورة صعود اليمين المتطرّف في أوروبا

2022.09.28 - 07:11
Facebook Share
طباعة

 أصبح حزب فراتيللي ديتاليا اليميني المتطرّف، بقيادة رئيسته جيورجيا ميلوني، الحزب السياسي الأبرز في إيطاليا بعد الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد أخيرا، وسيتمكّن، هو وحلفاؤه من أحزاب اليمين، من حملها إلى رئاسة الحكومة، لتكون بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب في بلادها. لقد أدّت لامبالاة الإيطاليين الذين لم يشاركوا بكثافة في الانتخابات إلى عودة الفاشية إلى الحكم، عندما تركوا الباب مواربا لحزبٍ يمينيٍّ صغير متطرّف يحمل معه إرث الفاشية القديم، ليقود الدولة المؤسّسة للاتحاد الأوروبي، وثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. وفي أقصى شمال أوروبا، حملت الانتخابات التي شهدتها السويد قبل أسبوعين حزبا يمينيا من حركة النازيين الجدد ليصبح أول قوة سياسية في البلاد، ستمكّنه تحالفاته مع أحزاب يمينية ومحافظة من تغيير الصورة التقليدية عن الديمقراطيات الاجتماعية في الدول الاسكندنافية.


نحن فعلا أمام تحوّل تاريخي في أوروبا، وصفته افتتاحية صحيفة لوموند الفرنسية بـ"الزلزال السياسي"، حيث باتت التحالفات اليمينية المتطرّفة تحكم دولها أو تهيمن على برلماناتها، وهو ما لم تشهده أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع مثل هذا الصعود الكبير والسريع لأحزابٍ يمينيةٍ متطرّفة، لا تخفي جذورها الفاشية والنازية، ما يضع القارّة العجوز أمام تحدّيات كبيرة مع ارتفاع أصوات اليمين المتطرّف المعادي لأوروبا الموحدة والرافض التخلي عن السيادة الوطنية للدول والمعادي للهجرة والمهاجرين، خصوصا من دول الجنوب.

يتمثل التهديد الكبير اليوم لهذا المدّ اليميني في صعود أجنحته الفاشية والنازية التي بدأت تنتعش في أكثر من بلد أوروبي، في إيطاليا والسويد واليونان وفرنسا وإسبانيا والنمسا والمملكة المتحدة وهولندا وألمانيا وأوكرانيا وبولندا والمجر التي يحكمها اليوم حزب يميني متطرّف من سلالة النازيين المجريين بزعامة فيكتور أوربان الذي أسّس نظاما هجينا استبداديا وانتخابيا، تقوم سياسته على مناهضة الأجانب ومعارضة الاتحاد الأوروبي.

ليس هذا الصعود الكبير والسريع لليمين المتطرّف في أوروبا وليد اليوم. إنه سلالة النازية والفاشية التي لم تختف أفكارُها في أوروبا، وإنما لم تكن تستطيع التعبير صراحة عن جذورها خلال العقود الماضية، عندما كانت الأحزاب اليسارية قوية. ولكن منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت تغيرات كبيرة في أوروبا والعالم مع تفكّك الاتحاد السوفييتي، واضمحلال عصر الرأسمالية الصناعية، وتفاقم الأزمات الاقتصادية العالمية، بدأت تظهر أحزاب يمينية متطرّفة تتبنّى خطاباتٍ شعبوية قومية تعادي الأجانب، وتٌحمِّل مشكلات بلدانها للهجرة والتعدّد الثقافي، وتدعو إلى هوية وطنية نقية، ومع ظهور ما أصبح يسمّى "الإرهاب الإسلامي"، جعلت من الحرب ضد الإسلام واحدة من موضوعاتها المركزية.

وبالإضافة إلى هذه الظروف التاريخية، كانت للصعود القوي لليمين المتطرّف في دول أوروبية عديدة أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية متعدّدة ومتداخلة، يصعب تحديد أيها الأكثر أهمية. لكن من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في عام 2008 وما تلاها من إجراءات اقتصادية تقشفية حازمة في كل بلد، للسيطرة على العجز التي تسبّبت فيه الطفرة النيوليبرالية، كلها عوامل وفرت الفرص لانتعاش خطاب الحركات اليمينية المتطرّفة التي سخَّرت استياء الطبقات الشعبية الأكثر تضرّرا من تلك السياسات لتعبئة تحرّكاتها.

وما سهل الأمر أمام صعود المدّ اليميني المتطرّف هو تراجع اليسار التاريخي في أوروبا، لأسبابٍ متعدّدة أيضاً، يتداخل فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإيديولوجي، مع انتشار ثقافة الفردانية في أوروبا واضمحلال الطبقة العاملة الصناعية التي كانت تشكل حاضنةً للأحزاب اليسارية. وجاءت تقنيات التواصل الحديث لتساهم بشكل فعال في نشر أفكار اليمين المتطرّف وتداولها، وفي هيكلة حركاته والتنسيق بينها، وفي تطور خطابها العنصري المناهض للآخر غير الأوروبي. من دون أن ننسى أزمة الديمقراطية في الغرب التي أصبحت عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها التحولات المتسارعة والمعقدة التي تشهدها المجتمعات الحديثة في أوروبا والعالم، فالانتخابات التعدّدية تحولت إلى مجرد طقوس فارغة لإنتاج مؤسّسات تمثيلية مجرّدة من أي معنى، تحتكرها طبقة سياسية تقليدية فاسدة، بعيدة عن التمثيل الحقيقي للشعب، وهو ما جعل اليمين المتطرّف يستفيد من الاشمئزاز الشعبي ضد الأحزاب التقليدية اليسارية والمحافظة التي ظلت تتداول على السلطة في الدول الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وانتهز الفرصة زعماء اليمين المتطرّف الشعبويون لترويج خطابات سهلة، تصل إلى عقول الناس بسرعة، ما أكسبهم ثقة البسطاء الذين غالبا ما يصوّتون لصالحهم عقابا للأحزاب التقليدية التي خذلتهم على مرّ السنوات الماضية، فاليمين المتطرّف يجسد أسوأ ما في التقاليد الأيديولوجية الأوروبية: الأصولية القومية، الدوغمائية المناهضة للتنوير، وتبجيل السلطوية السياسية والكاريزما الشخصية، عدا عن أن أفكاره شوفينية عرقية عنصرية، تمجّد الأمة وتقدّس العرق الأبيض، وتحمل كراهية مقيتة للأجانب، وخطاباته شعبوية مناهضة للمؤسّسة، وبرامجه شعارات وحلول بسيطة وسريعة تتمثل في وقف الهجرة من خارج الاتحاد الأوروبي وطرد الأجانب الملونين، وخصوصا المسلمين، وإسقاط الطبقات السياسية التقليدية، وحماية الاقتصاد الوطني وفكّ الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، والتركيز على القيم الأسرية والدينية التقليدية.

خطورة صعود اليمين المتطرّف لا تكمن فقط في سياسات الكراهية ضد الأجانب التي يروّجها لكسب تعاطف جماهيره الشوفينية، وإنما على مستقبل الديمقراطية والأفكار التنويرية في الغرب، وعلى كل القيم التي جاءت بها هذه الأفكار، والمتمثلة أساسا في احترام حقوق الإنسان وكرامته، وفي صون الحرية والتعدّدية والديمقراطية والحق في الاختلاف. ولمواجهة هذا المدّ اليميني المتطرّف، لا حلّ أمام أوروبا سوى التمسّك بقيمها الديمقراطية، لأن الديمقراطية التي أوصلت بعض هذه الأحزاب إلى الحكم وحدها القادرة على مواجهة فكرها المتطرّف، رغم أن الأمر يبدو اليوم أكثر تعقيدا، لأننا أمام ظاهرة عالمية وطفرة كبيرة للفكر اليميني المتطرّف الذي أصبح ينتشر عبر العالم مثل النار في الهشيم.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 1