الغاز هو كلمة السر في رسم الكثير من العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة. تماما كما فعل النفط لعقود طويلة. لكن ذلك لا يعني أن أحدهما سيأخذ مكان الآخر في العقدين المقبلين على الأقل، والدليل هو ردة الفعل الأميركية وحالة الغضب والهلع الشديد التي أصابت عواصم أوروبية في أعقاب قرار تحالف أوبك + بقيادة السعودية وروسيا خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا بداية من تشرين الثاني المقبل، مما وتر العلاقة الأميركية الخليجية. تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يحمل البلدين مسؤولية ارتفاع أسعار النفط، وقوله إن هناك "عواقب لما فعلوه" كانت المؤشر الأول حول التصعيد المرتقب. ثم جاءت الخطوة الأميركية الثانية من خلال إلغاء الاجتماعات العسكرية لمجموعة العمل الأميركية - الخليجية، التحالف الإقليمي الذي يضم واشنطن والعديد من شركائها في المنطقة.
بالعودة إلى الطاقة الغازية فالحدث الأبرز في الآونة الأخيرة جاء مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بخصوص تركيا التي أثبتت أهميتها لتكون الطريق الأكثر موثوقية بتزويد الاتحاد الأوروبي بالغاز، وأن ذلك حصل بفضل نهج أردوغان حيال خط أنابيب "السيل التركي ". بوتين ذهب أبعد من ذلك عندما ذكر الغرب بالقيمة الاستراتيجية لتركيا والواجب عدم التفريط بها لأن موسكو جاهزة لملء هذا الفراغ من دون تردد.
بوتين وفي أعقاب القمة الرابعة التي عقدها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش أعمال منظمة "سيكا" الأسيوية في الأستانا، فاجأ الجميع أيضا عندما توقف عند أهمية تحويل تركيا إلى جسر تواصل للغاز بين الشرق والغرب، وقدرتها على لعب هذا الدور الذي يجعل منها الخزان العالمي لهذه المادة. مبديا استعداد بلاده في إطار تفاهمات وضمانات محددة إنشاء خط غاز جديد يمر عبر البحر الأسود باتجاه الأراضي التركية لإيصال المادة إلى أوروبا، وأن الكمية التي ستوفرها روسيا لأوروبا قد تصل إلى أكثر من 60 مليار متر مكعب في العام. المنصة التركية حسب موسكو لن تكون فقط لنقل الغاز إلى أوروبا، ولكن لتحديد السعر العالمي أيضا "حيث نستطيع معها أن نضبط الأسعار على مستوى السوق من دون تسييس".
توقيت ومضمون رسائل بوتين لا يمكن فصلهما عن:
توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام بعد التصويت بأغلبية ساحقة على إدانة ضم روسيا لأربعة أقاليم أوكرانية ورفض الاعتراف بهذه الخطوة الروسية.
وقمة براغ قبل أسبوعين التي أعلنت تشكيل كيان أوروبي موسع خارج منظومة المجلس الأوروبي ومنظمة التعاون الأوروبية التي تعتبر روسيا حلقة فيها.
والعودة الأميركية السريعة والمفاجئة إلى مناطق الشرق الأوسط وشرق المتوسط والبحر الأسود والقوقاز والبلقان لمواجهة التمدد والانتشار الروسي، كما حدث في اتفاقية ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية التي صنعتها واشنطن بالتفاهم غير المباشر مع إيران.
الحديث يتركز بين الرئيسين التركي والروسي على موضوع الطاقة وخطط تفعيل الدور التركي في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، لكن الصفقات ستكون مرتبطة ببحث تمديد العمل باتفاق الحبوب ومساعي التوصل إلى وقف لإطلاق النار واستئناف مباحثات السلام حول الحرب في أوكرانيا، إلى جانب طرح خطط استراتيجية تتعلق بغاز شرق المتوسط والحصص التركية الروسية هناك.
الخدمات المتبادلة بين أنقرة وموسكو كثيرة ومتنوعة بطابع سياسي واقتصادي على خط سوريا والبحر الأسود والقوقاز وشرق المتوسط. الورقة الأهم التي تريد موسكو لعبها بشكل مزدوج هي الجمع بين عملية دفع الحوار السياسي الدبلوماسي المباشر بين أنقرة والنظام في دمشق، ومسألة تفعيل الدور التركي في عملية استخراج وتصدير الغاز السوري إلى الخارج. عادي أن تبدأ موسكو بالرد عبر الاقتراح الذي أعلنه بوتين أولا، ثم الاستعداد لتحريك ورقة الغاز السوري لتذكير الجميع بدورها وتموضعها في قلب شرق المتوسط ثانيا. وعادي جدا أن نسمع البعض في أنقرة يذكر الغرب بضرورة مواصلة دعم جهود الحلحلة على خط كييف – موسكو وفتح الطريق أمام خروج مئات الأطنان من الحبوب والأسمدة والزيوت الروسية أيضا إلى منتظريها.
تشييد جسر التواصل بين الشرق والغرب في مادة الغاز هو حلم تركي استراتيجي قديم. لذلك من الطبيعي أن ترحب أنقرة على الفور بالمقترح الروسي. لكن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو توقف عند متطلبات وتفاهمات تسبق التحرك بهذا الاتجاه، بينها بحث مسائل التمويل وتجاوز العقوبات الغربية على روسيا والتحضيرات الفنية واللوجستية والتفاهمات المالية والاقتصادية والعرض والطلب بين روسيا وأوروبا. لا تريد أنقرة أن تناقش خطة بهذه الأهمية مع روسيا وحدها، فهناك الغرب الواجب أن يقول ما عنده أيضا. من لذع الحليب لسانه ينفخ على اللبن قبل أن يشربه، كما يقول المثل الشعبي.
اتجهت الأنظار في أوروبا بعد اندلاع المعارك على الجبهات الأوكرانية وقرارات الحظر والقطيعة مع روسيا، نحو تنويع مصادر الطاقة والبحث عن أسواق جديد لسد النقص المحتمل في احتياجاتها خلال الأسابيع المقبلة. وتسعى الدول الأوروبية إلى اتفاقيات عاجلة مع دول آسيوية وأفريقية لتجاوز أزمتها. الحل المتوفر أمام أوروبا هو تحريك تفاهمات دول شرق المتوسط ودعم خطط ترسيم الحدود البحرية هناك للحصول على الغاز خلال فترة زمنية معقولة. أو فتح الطريق أمام أنقرة للوصول بوساطاتها على خط كييف – موسكو إلى تفاهمات هدنة وتسوية سياسية للأزمة.
هناك احتمال كبير بأن تصبح تركيا الدولة المحورية في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا لكن المطلوب أولا وقف الحرب في أوكرانيا وإنهاء التوتر الغربي الروسي ثانيا، وتخلي أوروبا عن عمليات مطاردة بدائل وخيارات استراتيجية جديدة للخروج من عباءة الغاز الروسي ثالثا. خصوصا أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تقول إن ضم روسيا غير الشرعي لأربع مناطق أوكرانية، يرفع التحدي ضد النظام الدولي إلى مستوى جديد وأن نتائج هذه الحرب يمكنها أن تحدد مستقبل العالم بأسره.
الكرة هي في ملعب واشنطن لتقول ما عندها بعد حملة التقريب بين بيروت وتل أبيب بمساعدة إيرانية. هي عرقلتْ مشروع خط أنابيب "ميد إيست" الذي استبعد تركيا عن منطقة شرق المتوسط وهي دعمت التطبيع بين أنقرة وتل أبيب أيضا. لكنها لم تحسم موقفها في التأزم التركي اليوناني واستمرار التباعد التركي المصري. والأهم من كل ذلك هو معرفة كيف ستعقب على التفاهمات التركية الروسية الجديدة في خطط الطاقة حيث التصعيد العسكري على الجبهات الأوكرانية في ذروته.
تلعب روسيا ورقة التباعد بين أنقرة وواشنطن حتى النهاية. الحليف المفترض هو الغرب لكن التنسيق والقمم والمواقف المتقاربة هي بين تركيا وروسيا. بالمقابل تتمسك أنقرة بجهود وساطتها بين كييف وموسكو من جهة وبين سيناريو طاولة حوار أوسع تجمع روسيا وعواصم غربية فاعلة ومؤثرة في الملف الأوكراني، بينها واشنطن وباريس وبرلين ولندن من جهة أخرى. لكن المستشار الألماني أولاف شولتس يتهم روسيا وقياداتها، بشن "حرب صليبية" ضد الغرب والنظام الدولي. دون أن نغفل مسألة الإجابة على سؤال ما الذي قد يجري عند حدوث أي توتر في العلاقات التركية الروسية وكيف سيؤثر ذلك على خطط نقل الغاز إلى أوروبا؟
مهمة أنقرة لن تكون سهلة فالغرب متمسك بمواجهة الكرملين وسياساته والتصعيد من أجل ذلك.
الطريق الأقصر والأسهل لفتح الأبواب أمام حصول تركيا على مثل هذه الفرصة الاستراتيجية هو مسارعة موسكو لإعلان قرار وقف الحرب ضد أوكرانيا والانسحاب من أراضيها ومحاولة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام فهل تفعل موسكو ذلك؟
المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط