كتبَ خالد محمود: التكنولوجيا إذ تعيد بناء الأنساق الدولية

2022.06.16 - 04:12
Facebook Share
طباعة

 على مر التاريخ، لعبت التكنولوجيا دورًا مهمًا ورئيسيًا في حقل العلاقات الدولية. ويعد التطور في المجال التكنولوجي عاملاً أساسيًا يقوم عليه كثير من التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبشرية جمعاء، وكذلك تأثيرها في النظام العالمي والعلاقات بين الدول والأقاليم؛ فمنذ بدء أولى صناعات الأدوات في العصر الحجري القديم حتى الوقت الراهن، شكّلت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من العمليات التحويلية التي أدت إلى تنظيم وتوسيع وإنشاء المجتمعات، وغالبًا ما تحدد المساواة في الوصول إلى التكنولوجيا -أو عدم المساواة- طبيعة العلاقات بين هذه المجتمعات والحضارات.

ولطالما أثرت التكنولوجيا في الخيارات المتاحة أمام واضعي السياسات وصانعي القرارات، وذلك في سعيهم إلى تحقيق أهداف الدولة، ولكنها أيضًا (أي التكنولوجيا) تعقد قراراتهم إلى حد ما. من بين الثورات العلمية والتكنولوجية التي يُعتقد أنها أسهمت في الطبيعة المتغيرة للقوة والعلاقات بين الدول يأتي التطور في مجال الاتصالات وثورة المعلومات المعاصرة؛ إذ تركز الأدبيات في حقل العلاقات الدولية اليوم على كيفية تأثير هذه التغييرات التكنولوجية، لا سيما على تحولات القوة والردع والدبلوماسية وغيرها من أدوات العلاقات الدولية.

ومن الجدير بالذكر أن الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة أسهمت في تراجع دور الأيديولوجيات، باعتبارها في فترة سابقة كانت دافعا ومحركا للتفاعلات الدولية، لتحل مكانها التكنولوجيا، بالإضافة إلى عناصر أكثر حداثة تنتمي إلى البعد الجيواقتصادي والجيوسيبراني في النظام الدولي المعاصر.

وعليه، فإنّ التقدم التكنولوجي يؤثر على تحولات القوة بما في ذلك طابعها وتوزيعها ومصادرها ومظاهرها وخصائصها؛ فالإمكانات العلمية والتكنولوجية وموارد المعرفة والمعلومات -التي تشكل رأس المال الفكري الذي تنعكس جودته على مستوى الابتكار- تصبح إحدى السمات أو الصفات الرئيسية للقوة.

بهذا، ثمة من يشير إلى الصلة بين التقنيات الجديدة وديناميكيات القوة في العلاقات الدولية، فالتطور التراكمي للمعرفة والابتكارات التكنولوجية -في مجالات مثل الاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والمجالات العسكرية واستكشاف الفضاء الخارجي- ميدان للمنافسة الدولية على السلطة وتوزيعها الجديد من ناحية وأداة متطورة لتعزيز قوة لاعبين معينين على الطرف الآخر ( الفواعل اللادولاتية). وبالتالي، فإن القوة التكنولوجية ليست مجرد أداة مستقلة للإمكانيات، ولكنها -في الوقت نفسه- حافز لبناء مجالات أخرى للقوة، بما في ذلك أبعادها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والأمنية والعسكرية.

المعروف أن التقدم التكنولوجي يولد ظروفًا جديدة تمارس فيها الدول حقوقها السيادية وتسعى إلى تحقيق مصالحها، في كل من السياسة الداخلية والخارجية. ويجبر التقدم التكنولوجي الدول على التكيف مع منطق الأداء في البيئة الدولية، كما يتسم بشبكة متنامية من الترابط، وزيادة الكثافة والتعقيد والديناميكيات في العلاقات السياسية الدولية.

إنّ ثورة المعلومات تشكل تحديًا للممارسة الدبلوماسية التقليدية، لأنها تزيد من تعقيد البيئة التي تُتبع فيها الدبلوماسية. وهذا أدى إلى ظهور ما يسمى "الدبلوماسية الجديدة"، التي تم تحديدها على أساس افتراض أن عمليات التفاوض الدولية تتأثر بشكل متزايد بنشاط المؤسسات بخلاف الدول، خاصة الشركات عبر الوطنية ومنظمات المجتمع المدني عبر الوطنية. ونتيجة لذلك، تظهر بيئة التفاوض على أنها متعددة الأبعاد وأقل وضوحًا، ولم تعد ناتجة عن تقارب وتباين المصالح والموقف التفاوضي لدول معينة فقط. كما يؤدي تطوير وسائل الاتصال والمعلومات أيضًا إلى التأثير في البعد المكاني والزماني للنشاط الدبلوماسي؛ إذ تزود التقنيات الجديدة الدول بالأدوات اللازمة لأداء الوظائف الأساسية للدبلوماسية، وهي التمثيل والتفاوض والاتصال بشكل مختلف عما كان سائدا من قبل.

والاقتصاد مجال آخر يتأثر بالعامل التكنولوجي؛ فعلى الصعيدين الوطني والعالمي، يحفز تأثير العامل التكنولوجي في الاقتصاد العالمي على ظهور اقتصاد قائم على المعرفة يتم فيه تحديد النجاح أو القوة وفقا للمعلومات.

كما يلعب التطور التكنولوجي دورًا حاسمًا في تشكيل إطار جديد للعلاقات الدولية، يتسم بالشبكات والترابط والاعتماد المتبادل. قد يتم تصور هذه التغييرات على أنها سلسلة من "المنعطفات" التي تعبّر عن تحول الحياة الاجتماعية، ونظام العلم والبحث، والأهم من ذلك، تحول التكوينات الجيوسياسية الحالية من المستويات المحلية إلى النطاقات العالمية. في هذا السياق، فإن المنطقة تتأثر بشدة بالعامل التكنولوجي، الذي يؤثر على كل من الواقع الدولي وعمليات بناء المعرفة حوله، وهنا نتحدث عن البعد المكاني للعلاقات الدولية.

لقد خبر العالم ظاهرة استشراء الشركاء متعددة الجنسية بعد سيطرتها على الاستثمار العالمي والتجارة الخارجية والصناعة التكنولوجية الدقيقة، مثل "آبل" (Apple) و"أمازون" (Amazon) و"فيسبوك" (Facebook) و"ألفابت" (Alphabet) و"مايكروسوفت" (Microsoft)، التي باتت عبارة عن إمبراطوريات ولدى بعضها عائدات سنوية تزيد على تريليون دولار، وتساوي قيمتها السوقية ما يزيد على عدد من التريليونات بالدولار وهذا شكل قلقًا من النفوذ الذي تكتسبه هذه الرأسمالية الرقمية، ولديها من النفوذ والتأثير لجعلها قوة اقتصادية وسياسية لا يمكن السيطرة عليها، وفقا لآراء بعض القادة السياسيين والخبراء الاقتصاديين.

اليوم قد يتم كسب حرب معاصرة بسبب قوة المعرفة التي تصبح "خصمًا" لأسلحة العدو وتكتيكاته المستخدمة في العمل العسكري. لقد مكنت الأسلحة الحديثة القائمة على المعلومات -بدل الأسلحة النارية- من تقليل كمية المتفجرات وتصغير الأسلحة؛ فالحروب المستقبلية لن يتم خوضها على الأرض أو البحر أو الجو أو الفضاء الخارجي فقط، ولكن ثمة مجالا آخر هو الفضاء السيبراني ليكون مسرحا للحرب الإلكترونية، أي الهجمات السيبرانية بمختلف أشكالها وأنواعها التي تتخذ شكل صراع أو حرب غير متكافئة، بما في ذلك الإرهاب الإلكتروني، وتتخذ أشكالًا مختلفة تتزايد قائمتها باستمرار.

وعن الفجوة التكنولوجية، فإنّ التقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" (UNESCO) تصنف العالم العربي في ذيل المؤشرات -مثل مؤشر الابتكار العالمي- مقارنة بدول العالم المختلفة في مجال التحديث التكنولوجي، ودائمًا ما تقارن هذه التقارير بين التطوّر التكنولوجي شديد المحدودية في العالم العربي وبين التطور المذهل الذي عرفته دول آسيوية، مثل الصين والهند وماليزيا وكوريا، وهي دول كانت تعاني فقرا شديدا وكثافة سكانية عالية وانعدامًا في الموارد النفطية، وتبرر أحد الأسباب الرئيسية للفجوة الرقمية بعدم وجود بنية تحتية معلوماتية لتكون أساسا لبناء مجتمع المعرفة أو المجتمع المعلوماتي.

مما لا شك فيه أن البشرية تعيش إرهاصات الثورة الصناعية الخامسة، وعلى الدول والحكومات أن تُعطي أولوية لمتطلبات هذه الثورة حتى يكون لها مكانة وموطئ قدم في عالم اليوم ومستقبل الغد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدول التي لا تمتلك الأدوات التكنولوجية المتطورة في مجال الذكاء الاصطناعي لن تكون لها فرصة للفوز في أي معارك تخوضها مستقبلًا.

 

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 2