تدخل سوريا في هذه المرحلة الدقيقة طورًا سياسيًا وإداريًا جديدًا، يتجاوز منطق إدارة الصراع إلى طرح سؤال الدولة ووظيفتها وشكل حضورها في حياة المجتمع. فقد خلّفت سنوات الثورة والحرب دمارًا واسعًا على المستويين البشري والمادي، وكشفت بوضوح هشاشة النموذج الإداري المركزي الذي حكم البلاد لعقود، والقائم على المحسوبيات والقبضة الأمنية، والذي أُدير بمعزل عن معايير الكفاءة والمساءلة، وعجز عن الوصول المتوازن إلى أطراف البلاد بما يحقق التنمية العادلة وتلبية الاحتياجات المحلية.
ويرى الكاتب والباحث السياسي طالب عبد الجبار الدغيم أن سوريا تقف اليوم عند مفترق تاريخي، يستدعي إعادة تعريف بنية الحكم ووظيفة الدولة، مشيرًا إلى أن النموذج المركزي الصارم الذي ساد لعقود أثبت عجزه عن إدارة التنوع الجغرافي والاجتماعي، وعن تحقيق تنمية متوازنة بين مختلف المناطق. ومع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، وبدء مسارات إعادة البناء السياسي والأمني في سوريا الجديدة، برزت الحاجة إلى إعادة النظر في بنية الحكم نفسها، بوصفها الإطار الناظم للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ويؤسس هذا الطرح لفكرة إعادة بناء الدولة من الأطراف باتجاه المركز، عبر الإدارة والخدمة والتنمية، بما يعزز الاستقرار طويل الأمد، ويعيد الاعتبار لدور المؤسسات المحلية في حياة المواطنين. ويقوم هذا التصور على اعتماد لامركزية إدارية مرنة، توفّق بين وحدة الدولة وسيادتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبين خصوصيات الجغرافيا السورية وتنوعها الاجتماعي.
وتقوم اللامركزية الإدارية والخدمية، في هذا السياق، على نقل الصلاحيات التنفيذية اليومية من المركز إلى المحافظات والإدارات المحلية، بما يشمل شؤون البلديات، والبنية التحتية، والتعليم، والصحة، والخدمات العامة، والسلامة المجتمعية. ويُعد هذا النقل للصلاحيات مدخلًا لإعادة تنظيم السلطة وفق مبدأ الكفاءة، والاقتراب من المواطن، وتقليص البيروقراطية والفساد، إذ تصبح المحافظة الأقدر على تحديد أولوياتها الخدمية، والأسرع استجابة لاحتياجات سكانها.
ويؤكد الدغيم أن دسترة هذا الشكل من اللامركزية تمثل ضمانة أساسية لمنع تسييسها أو إساءة استخدامها، من خلال تحديد واضح لصلاحيات المحافظات، وحدود تدخل المركز، وآليات الرقابة والمساءلة. وبهذا المعنى، تتحول اللامركزية الإدارية إلى أداة لتعزيز الدولة وتقوية مؤسساتها، لا إلى مدخل لإضعافها أو تفكيكها.
وفي البعد الاقتصادي، تشكل اللامركزية التنموية أحد المفاتيح الرئيسية لمعالجة الاختلالات التاريخية في توزيع الموارد والاستثمارات بين المحافظات. فقد عانت مناطق واسعة من سوريا من التهميش في ظل النظام السابق، مقابل تركّز التنمية في مدن محددة. ومنح الوحدات المحلية صلاحيات تخطيطية وتنموية أوسع، ضمن إطار وطني جامع، يسمح بإطلاق مشاريع تنموية تراعي الخصوصيات الزراعية والصناعية والسياحية لكل منطقة، ويخفف من دوافع الاحتقان الاجتماعي.
ويشير الدغيم إلى أن هذا النموذج يتطلب إطارًا دستوريًا وقانونيًا يضمن عدالة توزيع الثروات الوطنية، ويمنع تحول اللامركزية الاقتصادية إلى منافسة غير متوازنة بين المحافظات، مع بقاء الدولة مسؤولة عن السياسات المالية والنقدية والموارد السيادية الكبرى.
أما على الصعيد الأمني، فتُعد اللامركزية الأمنية من أكثر القضايا حساسية في السياق السوري. ويؤكد الدغيم أن المقصود بها ليس تعدد القوى العسكرية أو المساس باحتكار الدولة للسلاح، بل إنشاء أجهزة شرطة محلية مهنية، خاضعة للقانون الوطني، ومرتبطة بمنظومة قيادة مركزية موحدة، بما يعزز الأمن المحلي ويحفظ وحدة القرار السيادي.
ويرى أن التفاهمات الأمنية والإدارية التي أُنجزت في بعض المناطق تشكل نماذج عملية لإعادة الدمج والاستقرار، عبر معالجة الهواجس المحلية ومنح صلاحيات شرطية وخدمية ضمن إطار الشرعية الوطنية، بما يساهم في إنهاء الفوضى الأمنية ومواجهة الجماعات الخارجة عن القانون.
ويخلص طالب عبد الجبار الدغيم إلى أن إعادة بناء الدولة السورية لا يمكن أن تنطلق من المركز وحده، بل من الأطراف باتجاهه، عبر ترميم العلاقة بين السلطة والمجتمع، واستعادة وظيفة الدولة بوصفها خدمة عامة. فالدولة التي تُبنى من القاعدة إلى القمة تكون أكثر تماسكًا وقدرة على الاستمرار، لأنها تنبع من احتياجات الناس، وتستوعب التنوع الاجتماعي والمناطقي، وتحافظ في الوقت ذاته على وحدة السيادة والقرار الوطني، وتغلق الطريق أمام مشاريع الانقسام والفراغ والفوضى.