الشيخ مقصود والأشرفية… عقدة عسكرية داخل حلب

2025.12.25 - 11:08
Facebook Share
طباعة

 على مدى أكثر من عقد من الزمن، تحولت أحياء الشيخ مقصود والأشرفية وأجزاء من حي بني زيد شمال مدينة حلب إلى مناطق ذات طابع عسكري مغلق، بعد أن رسّخت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وجودًا أمنيًا كثيفًا فيها، قائمًا على تكديس السلاح والذخائر، وبناء شبكة واسعة من الأنفاق والمخابئ والتحصينات. هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج سياسة طويلة الأمد هدفت إلى تثبيت موطئ قدم دائم داخل واحدة من أهم المدن السورية.

منذ بدايات الصراع السوري، شكّل حي الشيخ مقصود موقعًا استراتيجيًا بالغ الحساسية، نظرًا لتمركزه على تلة مرتفعة تشرف على عدد كبير من أحياء حلب الشمالية والغربية. ومع مرور السنوات، استثمرت “قسد” هذا العامل الجغرافي لتعزيز قدرتها على المراقبة والتحكم، وتحويل الحي إلى نقطة ارتكاز عسكرية يصعب تجاوزها أو التعامل معها دون كلفة بشرية وميدانية عالية.


تراكم القوة بعد 2018
تعززت القدرات العسكرية لـ“قسد” داخل حلب بشكل ملحوظ بعد عام 2018، عقب انسحابها من منطقة عفرين شمال غربي المحافظة. ففي تلك المرحلة، تدفقت أعداد كبيرة من المقاتلين والأسلحة والذخائر إلى مناطق الشهباء، قبل أن يُنقل جزء مهم منها لاحقًا إلى أحياء الشيخ مقصود والأشرفية داخل المدينة. هذا الانتقال لم يكن مجرد خطوة تكتيكية، بل مثّل بداية مرحلة جديدة من إعادة التموضع، ركّزت فيها “قسد” على تعزيز مواقعها داخل النسيج الحضري.

وبمرور الوقت، تكرّس هذا المسار مع انسحابها اللاحق من مناطق الشهباء أواخر عام 2024، حيث دخلت أرتال من المقاتلين والشاحنات المحمّلة بالذخائر إلى الأحياء الخاضعة لسيطرتها في حلب. ورغم عدم قدرتها على نقل كامل ترسانتها، فإن الكميات التي وصلت كانت كافية لتعزيز شعورها بفائض القوة، وترسيخ قناعة بإمكانية الصمود في حال اندلاع مواجهة.


بنية تحتية عسكرية معقدة
لا تقتصر القدرات العسكرية لـ“قسد” في حلب على وفرة السلاح والذخيرة، بل تعتمد بشكل أساسي على بنية تحتية دفاعية متكاملة. وتشير المعطيات المحلية إلى وجود شبكة أنفاق واسعة تمتد تحت الأحياء السكنية، بعضها يصل بين نقاط تمركز مختلفة، وبعضها الآخر مخصص لتخزين الأسلحة والذخائر والوقود.

هذه الأنفاق تمنح “قسد” قدرة عالية على المناورة والتحرك بعيدًا عن أعين الخصوم، وتوفر لها خطوط إمداد داخلية في حال الحصار أو القصف. كما تتيح للمقاتلين إعادة الانتشار بسرعة، ما يعقّد أي محاولة لفرض سيطرة عسكرية مباشرة على المنطقة.

إلى جانب الأنفاق، تنتشر التحصينات التقليدية من سواتر ومواقع رصد ونقاط قنص، مستفيدة من الطبيعة المرتفعة للحي. هذا الواقع يجعل من الشيخ مقصود والأشرفية مناطق شديدة الحساسية، حيث تتحول أي مواجهة محتملة إلى معركة داخل أحياء مكتظة بالسكان.


المدنيون في قلب المعادلة
وسط هذا المشهد العسكري المعقد، يجد المدنيون أنفسهم الحلقة الأضعف. فوجود مستودعات ضخمة للذخائر والأسلحة تحت الأحياء السكنية يعني أن أي تصعيد قد يؤدي إلى كارثة إنسانية واسعة. ومع كل جولة توتر، تتجدد حالة الخوف والقلق بين السكان، الذين يدركون أن بقاءهم في منازلهم قد يحولهم إلى ضحايا عرضيين.

وخلال السنوات الماضية، اضطرت مئات العائلات إلى النزوح المؤقت أو الدائم، متجهة نحو مناطق أكثر أمانًا شمالي حلب، أو خارج المدينة بالكامل. بعض هذه العائلات فضّل عدم العودة، معتبرًا أن الحياة فوق شبكة أنفاق ومستودعات سلاح تشكل خطرًا دائمًا لا يمكن التعايش معه.


الوقود كجزء من الاستعداد العسكري
إحدى أبرز نقاط القوة لدى “قسد” داخل حلب تتمثل في امتلاكها خزانات وقود أرضية ضخمة، محفورة تحت الأرض ومخصصة لتشغيل الآليات العسكرية لفترات طويلة. هذه الخزانات تشكل عنصرًا أساسيًا في أي سيناريو مواجهة، إذ تضمن استمرار الحركة العسكرية حتى في حالات الحصار.

غير أن هذا الاستعداد اللوجستي يقابله واقع معيشي قاسٍ للسكان. ففي الوقت الذي تُخزّن فيه كميات كبيرة من الوقود للأغراض العسكرية، يعاني الأهالي من نقص حاد في مادة المازوت، خاصة خلال فصل الشتاء، ما يفاقم معاناتهم اليومية ويزيد من حالة الاحتقان الشعبي داخل الأحياء.


تحولات ديموغرافية وسياق تاريخي
لم يكن حي الشيخ مقصود دائمًا على هذه الصورة. تاريخيًا، كان الحي منطقة سكنية تضم عائلات حلبية تقليدية، إلى جانب حضور مسيحي وأرمني واضح حتى سبعينيات القرن الماضي. لاحقًا، شهد موجات استقرار من أرياف حلب ومناطق أخرى، قبل أن يبدأ الحضور الكردي بالازدياد تدريجيًا منذ سبعينيات القرن الماضي، ليصبح جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي للحي.

هذه التحولات الديموغرافية، إلى جانب غياب التخطيط العمراني وضعف الرقابة، أسهمت في تغيّر طبيعة المنطقة، وجعلتها أكثر قابلية للتحول إلى ساحة صراع عسكري معقدة، تتداخل فيها الهويات الاجتماعية مع الحسابات الأمنية.


معادلة الردع والمخاطر
من خلال تتبع مسار نقل القوات والعتاد بين عفرين والشهباء وصولًا إلى أحياء حلب، يتضح أن “قسد” اعتمدت استراتيجية تقوم على تجميع أوراق القوة داخل المدينة، تحسبًا لأي تغيرات سياسية أو عسكرية. هذه الاستراتيجية وفرت لها قدرة على الردع والصمود، لكنها في الوقت نفسه وضعتها أمام تحديات كبيرة.

فالموقع الجغرافي الحساس، والكثافة السكانية العالية، والضغوط السياسية والعسكرية المحيطة، تجعل أي مواجهة شاملة سيناريو بالغ الخطورة. كما أن استمرار هذا الوضع يضع “قسد” أمام اختبار صعب: إما الحفاظ على نفوذها عبر توازنات دقيقة، أو المخاطرة بصدام قد تكون كلفته أكبر من قدرتها على الاحتمال.


مستقبل الوجود في حلب
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن مستقبل “قسد” في حلب سيظل مرهونًا بتوازنات إقليمية ومحلية معقدة، تتجاوز في كثير من الأحيان قدراتها الذاتية. فامتلاك السلاح والأنفاق يمنحها قوة ميدانية، لكنه لا يضمن بالضرورة استقرارًا طويل الأمد، خاصة في مدينة بحجم وتعقيد حلب.

وبينما تستمر “قسد” في تحصين مواقعها والاستعداد لأسوأ السيناريوهات، يبقى المدنيون عالقين بين حسابات القوة، يدفعون ثمن صراع لم يكونوا يومًا طرفًا فيه، في انتظار حل سياسي أو أمني ينهي هذا الواقع الهش ويعيد للمدينة بعضًا من استقرارها المفقود.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 8