تلقّت المصارف العاملة في لبنان، عبر مصرف لبنان المركزي، إحالة رسمية من النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو بعنوان “طلب معلومات”، تتضمّن إلزام المصارف بتقديم كشوفات حسابات مفصّلة تشمل رؤساء مجالس الإدارة وأعضاءها، إضافة إلى المديرين التنفيذيين ومديري الفروع والمفوّضين بالتوقيع. وامتدّ الطلب ليشمل أزواج هؤلاء وأولادهم، في خطوة وصفت داخل القطاع المصرفي بأنها غير مسبوقة من حيث حجم التفاصيل المطلوبة واتساع لائحة الأسماء.
ويأتي هذا التطوّر في ظلّ مخاوف واضحة لدى إدارات المصارف وأصحابها، إذ جرى النظر إلى هذا الطلب على أنه نقطة تحوّل في مسار متابعة ملف توزيع الخسائر في القطاع المالي، خصوصاً أن توقيته تزامن مع تسريب النسخة التاسعة من مسوّدة مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع”، الذي وصلت مسودته الرابعة عشرة إلى مراحل نقاش متقدمة.
وفي 17 تشرين الثاني 2025، وجّه شعيتو كتاباً رسمياً إلى حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، مستنداً إلى “تحقيقات أولية تجريها النيابة العامة المالية حول شبهات بجرائم جزائية، بينها جرائم مصرفية”، طالباً كشوفات تفصيلية عن حركة الحسابات والتحويلات بين 1 تموز 2019 و1 كانون الثاني 2023. وشملت اللائحة كل رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف اللبنانية، السابقين والحاليين، إلى جانب المديرين على مختلف المستويات ومديري الإدارة العامة والفروع والمفوّضين بالتوقيع.
وفي خطوة إضافية، ضمّ شعيتو الأزواج والزوجات والأولاد إلى لائحة الأسماء الواجب الكشف عن حساباتها، محدداً بوضوح ضرورة إبراز التحويلات إلى الخارج خلال الفترة المحددة، مع تواريخها وقيمها وأسماء أصحاب الحسابات والجهات المستقبلة، إضافة إلى تبيان التحويلات الداخلية التي أعقبها تحويل خارجي، بهدف رسم صورة كاملة لمسار الأموال.
ووصل الطلب قبل يومين إلى المصارف عبر مصرف لبنان، ما أثار موجة قلق واسعة. إذ تعتبر المصارف أن هذا التوسّع في طلب البيانات يلوّح بإمكانية تحميلها مسؤوليات جزائية في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنه يتجاوز ما ورد في طلبات المعلومات السابقة، ويطال حسابات “الفريش” و“اللولار” على حدّ سواء، ويركّز على ما يُعرف بالعمليات الثلاثية التي تمرّ من حساب محلّي إلى آخر قبل الوصول إلى الخارج. ومع ذلك، لم يشمل الطلب حسابات السياسيين المصنّفين وأفراد عائلاتهم.
وبحسب المعطيات، بادرت جمعية المصارف إلى تقديم موعد اجتماعها المقرر للاثنين إلى يوم الخميس، نظراً لحساسية المستجدات. وتدور بين المصرفيين نقاشات حادة حول هذا الطلب الذي يرونه متعارضاً مع السردية التي حاول المصرف المركزي والمصارف تثبيتها حول أن الأزمة “نظامية” وأن دور المصارف فيها كان “اضطرارياً” وليس ناتجاً عن إرادة أو تخطيط، وذلك بهدف منع أي مسؤولية جزائية مستقبلية.
ويتزامن هذا كله مع اقتراب عرض مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع” على مجلس الوزراء، وهو قانون فجّر صراعاً واسعاً منذ أكثر من ست سنوات بين أطراف السلطة، وشاركت في مساره مؤسسات دولية أبرزها صندوق النقد الدولي. وتزايدت حدة هذا الصراع داخلياً بفعل الضغوط الخارجية المطالبة بقانون يتناسب مع واقع إفلاس المصارف وضرورة استدامة المالية العامة، بعيداً عن المصالح السياسية الضيقة.
وتبدي جمعية المصارف خشيتها من أن يقود هذا القانون إلى نسف رساميل المصارف وفتح باب الملاحقات على نطاق واسع، في وقت تحاول فيه المصارف السعي إلى ضمان “براءة ذمة” عن دورها في الأزمة. وفي هذا السياق، لجأت الجمعية إلى الضغط على السلطة لوقف الملاحقات القضائية المتصلة بدعاوى المودعين، والسعي إلى تعديلات جوهرية على مشروع القانون.
وبحسب المعطيات، عُقد خلال الأيام الماضية اجتماع في لندن ضمّ حاكم مصرف لبنان كريم سعيد ووفداً من مجلس إدارة جمعية المصارف مع ممثلين عن ثمانية من أكبر المصارف اللبنانية، إلى جانب شركتي “روتشيلد” اللتين يستعين بهما مصرف لبنان، وشركة “أنكورا” التي تعمل معها جمعية المصارف. وجرى خلال الاجتماع إطلاع ممثلي المصارف على الخطوط الأساسية للخطة التي وضعها الحاكم ونائبه سليم شاهين، وصيغت عبر فريق مكلف من رئاسة الحكومة برئاسة القاضية رنا العاكوم ومروان صقر، وناقشتها وزارة المال عبر الوزيرين ياسين جابر وعامر البساط.
غير أنّ توقعات نيابية تشير إلى صعوبة تمرير المشروع في مجلس النواب، فيما وصلت معلومات إلى الرئيس سلام تفيد بأن المصارف والحاكم يستعدون لشنّ حملة واسعة ضد المشروع بالتوازي مع ضغوط تُمارس في واشنطن، يقودها فريق تابع للمصرفي أنطون الصحناوي.
وعلى هذا الأساس، عقد مجلس إدارة جمعية المصارف اجتماعاً يوم الجمعة الماضي لبحث أرقام خطة مصرف لبنان، وقرّر إعداد ردّ تفصيلي لنقضها، بهدف الحصول على تنازلات إضافية، سواء في ما يتصل بملف المسؤوليات القانونية أو في ما يخص نسب توزيع الخسائر. ويركّز موقف المصارف على المطالبة بأن تُحتسب 8 مليارات دولار من التوظيفات الإلزامية بالعملات الأجنبية كجزء من التزامات مصرف لبنان تجاهها، وبالتالي احتسابها للمصارف وعدم شطبها من رساميلها.
في المقابل، تظهر بيانات في رئاسة الحكومة أن المصارف تحاول التنصل من مسؤوليات مباشرة، بينما يعتبر الرئيس سلام أن أي مفاوضات بناءة تبدأ فقط عندما يبادر المساهمون والمديرون في المصارف إلى إعادة أموالهم التي حوّلوها للخارج خلال السنوات الماضية.
وتتضمّن خطة الفجوة المالية أن تتحمّل المصارف نحو 12 مليار دولار على مدى فترة طويلة، مقابل أكثر من 16 مليار دولار لمصرف لبنان، ومبلغ مماثل للدولة. كما سيجري خفض التزامات المصرف المركزي تجاه المصارف بـ35 مليار دولار من أصل 80 مليار، عبر شطب فوائد إضافية بقيمة 11 مليار، وإزالة 10 مليارات دولار ذات مصادر غير موثوقة، وشطب نحو 15 مليار دولار من حسابات قامت بتحويل ودائع من الليرة إلى الدولار بعد أيلول 2019 بأسعار متعددة.
وتشير الخطة إلى أن المودعين سيحصلون على 100 ألف دولار نقداً “فريش”، فيما يُحوَّل ما يزيد عن ذلك إلى سندات يصدرها مصرف لبنان، بالتوازي مع إنشاء صندوق تُودع فيه أصول الدولة والمصرف المركزي، ومنها العقارات والشركات والمعادن الثمينة، وخاصة فروقات أسعار الذهب.
وفي السياق نفسه، يبرز نقاش حول استخدام جزء من احتياطي الذهب، سواء عبر الرهن أو تسييل الفروقات الناتجة عن ارتفاع قيمته خلال السنوات الماضية، لتمويل جزء من خطة إعادة الودائع. لكن هذا الخيار لا يزال مستبعداً سياسياً، ويحتاج إلى قانون خاص لإقراره.
تكشف الخطوة القضائية الأخيرة عن انتقال الملف المالي في لبنان من دائرة “التوصيف العام للأزمة” إلى مرحلة تتبّع المسؤوليات الفردية، وهو ما يضع المصارف في مواجهة مباشرة مع القضاء للمرة الأولى بهذا الحجم.
أبرز الدلالات:
تحوّل قضائي نوعي:
الطلب شمل دائرة واسعة جداً، ما يعني أنّ النيابة المالية تتجه لرسم خريطة تدفّق الأموال خلال ذروة الانهيار.
اهتزاز رواية المصارف:
خطوة شعيتو تقوّض سردية “الاضطرار”، وتفتح الباب أمام فرض مسؤوليات مباشرة، خصوصاً إذا أُقرّ قانون تنظيم الفجوة المالية.
ترابط مع ضغوط دولية:
التسريع في التحقيقات يتقاطع مع ضغط دولي لإقرار إصلاح مالي حقيقي، لا يكتفي بتوزيع خسائر شكلي.
صراع نفوذ مالي–سياسي:
الخلاف حول مشروع القانون يعكس صراعاً بين المصارف والسلطة التنفيذية والمؤسسات الدولية على تحديد من يتحمّل الكلفة الفعلية للانهيار.
تصعيد مرتقب:
الاجتماعات المكثّفة بين مصرف لبنان وجمعية المصارف توحي بأن المرحلة المقبلة ستكون الأكثر حساسية منذ بدء الأزمة.