مع أولى ساعات دخول قوات ردع العدوان إلى حماة في 5 تشرين الثاني 2024، تجسدت لحظة فاصلة تتجاوز المعارك الميدانية لتصبح اختبارًا لمرونة المدينة على إعادة ترتيب حياتها بعد عقود من القمع فالتقدم العسكري لم يكن مجرد اقتحام تحصينات النظام السابق، وانما كان أيضًا مناسبة لاستعادة الروابط الاجتماعية ومواجهة آثار سنوات التهجير والخوف، وسط تفاعل الأهالي مع الحدث بطريقة انعكست فيها الرغبة في إعادة بناء الحياة اليومية.
استفاد المقاتلون، الذين يشكّل أبناء حماة المهجّرين النسبة الأكبر منهم، من معرفتهم العميقة بتضاريس المدينة ومساراتها، ما مكّنهم من تجاوز العقبات بسرعة نسبية وتحول دخول القوات إلى مشهد يجمع بين الاحتفال الرمزي بالحرية والتواصل الإنساني مع الأهل والأصدقاء، فيما بدأ السكان في استعادة مبادراتهم المحلية لتنظيم الحركة اليومية وفتح الطرقات، مؤكدين قدرتهم على الانتقال من الخضوع الطويل إلى ممارسة الحياة العامة بحرية أكبر.
استعداد المدينة للتحرير جاء بعد أيام من رصد الخطوط الدفاعية القديمة وتحليل نقاط القوة والضعف، حيث انقسمت المجموعات بين مراقبة مسارات الاقتحام وتأمين الطرق الخلفية، ومتابعة تحركات الميليشيات المتمركزة في مناطق مثل قمحانة وجبل زين العابدين. وكشف القائد الميداني حسن مرعي مهدي حبيب لوسائل إعلام محلية أن كتائب الاقتحام الليلي وقوات النخبة لعبت دورًا حاسمًا في فتح الطريق إلى قلب المدينة، رغم القصف الجوي ورمي الطائرات المروحية براميل محمّلة بالمواد الكيميائية، موضحًا أن كل خطوة تقدّم كانت محل متابعة دقيقة لردود فعل السكان والمقاتلين.
في الساعات الأولى بعد دخول المدينة، بدا تفكك الهياكل الإدارية السابقة واضحًا، مقابل ظهور تنظيم مدني تلقائي تمثل في فتح المسارات الآمنة وتحديد نقاط الحركة حول المحال العاملة وأوضح محمد حمامة، أحد المشاركين في التوجيه المعنوي، أن السكان استعانوا بشبكات ثقة داخلية لتبادل المعلومات حول مصادر الخطر، ما يعكس قدرة المجتمع على إعادة تنظيم حياته بسرعة، بعيدًا عن سلطة الأجهزة الأمنية السابقة.
الذاكرة الجماعية للمدينة لعبت دورًا مركزيًا، إذ تذكّر الأهالي أحداث الثمانينيات، التي راح ضحيتها المئات بين قتلى ومعتقلين.
دخول القوات أعاد للمدينة كرامتها وفتح صفحة جديدة بعد عقود من القمع، الحدث يمثل لحظة فارقة في وعي المجتمع الحموي.
حماة تقدّم نموذجًا لفهم كيفية انتقال المدن من السيطرة الأمنية إلى إدارة مدنية طبيعية، حيث تتقاطع الذاكرة المؤلمة مع الطاقات المحلية للتنظيم الذاتي، لتشكل قاعدة لإعادة بناء مؤسسات قادرة على ضمان استقرار المدينة ومنع إعادة إنتاج أنماط القهر السابقة، ما يجعل هذا اليوم محفورًا في ذاكرة الجميع كفجر للحرية واستعادة للكرامة.