الاقتصاد السوري بين الولاءات المحلية وتفكك الدولة

2025.12.04 - 08:19
Facebook Share
طباعة

 شهدت سوريا خلال الفترة الأخيرة سلسلة أحداث عنف ومشاهد توتر في مناطق مختلفة، أظهرت تصاعد الانقسامات المحلية والعشائرية. ما كان في السابق مجرد توترات اجتماعية، بدأ يأخذ بعدًا اقتصاديًا حقيقيًا، إذ تتحول الولاءات المحلية إلى أدوات للتحكم بالموارد والخدمات الأساسية. هذا التحول يطرح سؤالًا كبيرًا: هل سوريا على طريق اقتصاد محلي بدلاً من اقتصاد الدولة المركزية؟


جذور التفكك وأزمة الموارد
ليس الحديث عن تقسيم البلاد حديثًا، فقد ظهرت محاولات لاقتراح تقسيم النفوذ على الأراضي السورية منذ عقود. اليوم، ومع ضعف الدولة في بعض المناطق، بدأت الولاءات المحلية تتحكم في الموارد الحيوية، من الطاقة والزراعة إلى النقل والتجارة، مما يهدد التكامل الاقتصادي الذي ظل يميز البلاد لعقود.

تأثير هذا الانقسام واضح: المنتجات الزراعية لا تصل إلى معامل التصنيع أو منافذ التصدير بسهولة، والمصانع تعاني نقص المواد الخام والطاقة، بينما تتحول حركة النقل إلى شبكة جبايات ورسوم محلية تزيد كلفة المنتجات وتضعف قدرة الدولة على التحصيل الضريبي.


الطاقة والغذاء تحت سيطرة محلية
قطاع الطاقة في شرق الفرات، الذي كان يشكل “خزان سوريا النفطي”، شهد تراجعًا كبيرًا في الإنتاج. الإيرادات لم تعد تدخل الميزانية العامة، بل توزع محليًا عبر شبكات ولاءات قبلية.
وفي الحسكة، المنتجة لنحو 40% من القمح السوري، أصبحت الأسواق مجزأة وتخضع لحواجز وضرائب عبور محلية، ما يرفع أسعار الغذاء ويزيد فجوة الأمن الغذائي، ويضع ملايين السوريين تحت خطر نقص المواد الأساسية.


فقدان السيادة وانعكاسات دولية
مع زيادة سيطرة الولاءات المحلية، تتسع مساحة تدخل القوى الخارجية، التي تقدم دعمًا سياسيًا وماليًا لمناطق محددة مقابل النفوذ على الموارد. هذا الوضع يقوض السيادة ويحول الاقتصاد الوطني إلى سلسلة مناطق محكومة بقوانين مختلفة، مع صعوبة جذب الاستثمارات المحلية أو الأجنبية، وارتفاع تكلفة رأس المال.


الاقتصاد النقدي وخطر التضخم
في بيئة متعددة النفوذ، قد تفرض كل منطقة عملتها الخاصة، ما يخلق “جزر نقدية” ويزيد صعوبة السيطرة على السياسة النقدية الوطنية. هذه الديناميكية تعزز التضخم، وتضعف احتياطيات النقد الأجنبي، وترفع كلفة الاستيراد، كما حدث سابقًا في السوق الموازي للعملات.


انهيار الخدمات والبنية التحتية
المياه، الكهرباء، الصحة والتعليم كلها ستكون ضحية الانقسام. كل منطقة ستتصرف وفق مواردها المحدودة، ما يضعف قدرة الدولة على تقديم خدمات موحدة ويزيد تكلفة الإنتاج البشري. التاريخ الإقليمي يقدم تحذيرات: في اليمن وليبيا، أدى غياب الدولة المركزية إلى هيمنة الفصائل المحلية على الموارد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.


الاقتصاد القائم على الولاءات
الاقتصاد العشائري يمكن أن يحد مؤقتًا من الفوضى، لكنه لا يوفر استقرارًا دائمًا. بمجرد غياب الدولة المركزية، تتحول الولاءات المحلية إلى معيار لتوزيع الموارد والخدمات، ويصبح اقتصاد الظل هو المسيطر، ما يضعف النشاط الإنتاجي ويجعل الدولة عاجزة عن ضبط الأسواق، مع زيادة تكاليف المعيشة وانخفاض القدرة الشرائية.


خسائر اقتصادية كارثية محتملة
أي تقسيم جغرافي أو عشائري سيؤدي إلى تعطيل التكامل الاقتصادي بين المناطق: الزراعة في الجنوب لن تصل لمصانع الشمال، النفط في الشرق لن يغذي الصناعة والنقل في الغرب، والمرافئ الساحلية لن تخدم التجارة الداخلية. هذا التفكك يفتح الباب أمام سيطرة القوى الخارجية على الموارد ويقود إلى فقدان السيادة الوطنية، وزيادة الأسواق السوداء، وتضخم نفوذ الفاسدين على حساب الفقراء.


ضرورة تعزيز الدولة والمؤسسات
الحل الوحيد لتجنب هذه الكارثة هو تقوية الدولة ومؤسساتها، وإعادة ربط المجتمع في إطار قانوني موحد يحمي الموارد ويوفر بيئة اقتصادية مستقرة. الحفاظ على وحدة سوريا ليس خيارًا سياسيًا فقط، بل شرط أساسي لاستعادة التعافي الاقتصادي وبناء مستقبل مستدام.


السيناريو العشائري ليس مجرد انقسام داخلي، بل تحول جذري في هوية الاقتصاد السوري، من اقتصاد دولة متكاملة إلى اقتصاد مناطق محكومة بالولاءات المحلية، مع جميع المخاطر المصاحبة من تفكك الخدمات، تضخم الأسعار، ونقص الاستثمارات. الوحدة الوطنية والمؤسسات القوية تبقى السبيل الوحيد للحفاظ على الأمن الاقتصادي والاجتماعي في سوريا.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 6