شهدت الساحة اللبنانية خلال الأيام الأخيرة تصاعداً في الرسائل والتحذيرات الخارجية، التي تعكس دقة اللحظة الراهنة، وتنبئ بتصعيد محتمل إن لم يستجب لبنان لمطالب عدة، تمحو ما يُعرف بـ«نموذج غزة» إذا لم يقبل بالاستسلام أو الامتثال للمطالب الإقليمية.
الخلية التي تعاونت مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على صياغة خطة غزة المعروفة باسم «الاستسلام أو الجحيم» هي نفسها اليوم التي تدّعي حرصها على احتواء أي مواجهة إسرائيلية مرتقبة، عبر تقديم الوساطة للبنان باعتبارها «قارب نجاة»، مع العلم أن الرسائل التي تصل تُظهر أن المخاطر الحقيقية متشابهة مع سيناريو غزة ذاته.
زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، إلى بيروت أمس بعد نحو شهر من زيارة مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد، وما تخلّلها من نشاط دبلوماسي مكثف أميركي-سعودي-فرنسي، عكست تصاعد لهجة التحذير بشأن تدهور الأوضاع في لبنان.
على غرار تعامل إدارة ترامب مع «حماس» قبل اتفاق غزة، حمل عبد العاطي إلى بيروت رسالة واضحة وصريحة، مفادها أن لبنان مطلوب منه اتخاذ خطوات محددة لتجنب التصعيد الإسرائيلي. ووفق مصادر رفيعة، جاءت هذه الرسالة بعد تلقي معلومات عن مبادرة مصرية تقضي بـ«تجميد وظيفة السلاح وعدم القيام بأي أعمال عدائية ضد إسرائيل، مقابل انسحاب جزئي من بعض المواقع المحتلة والإفراج عن عدد من الأسرى، تمهيداً لمسار تفاوضي»، وهو ما كان اللواء رشاد قد أبلغه سابقاً للمسؤولين اللبنانيين.
إلا أن المسؤولين اللبنانيين فوجئوا بأن عبد العاطي تجاوز مبدأ «تجميد السلاح» ليطالب بـ«نزع السلاح» في كامل لبنان، على أن يبدأ التنفيذ فوراً من جنوب الليطاني وصولاً إلى نهر الأولي.
وفي زيارته التي وصفتها المصادر بـ«غير الموفّقة»، تحدث الوزير المصري بشكل مباشر، مطالباً لبنان بـ«بدء نزع السلاح شمال الليطاني، وإيجاد مخرج عملي مع حزب الله، يبدأ على الأقل بإعلان نوايا واضحة للحزب بالاستعداد لتسليم السلاح». كما دعا عبد العاطي إلى «مفاوضات مباشرة مع إسرائيل في القاهرة»، محذراً من أن التصعيد الإسرائيلي بات وشيكاً قبل نهاية العام.
وقد شكلت مطالب عبد العاطي صدمة للمسؤولين اللبنانيين، إذ كان متوقعاً منه تقديم تنازلات للبنان كوسيط، لكنه بدا وكأنه يدعم المطالب الإسرائيلية بشكل كامل. رئيس الجمهورية ميشال عون أعرب عن استغرابه، مؤكداً أن لبنان ملتزم باتفاق وقف الأعمال العدائية، وأن الجيش اللبناني يواصل حصر السلاح بيد الدولة وفق خطة مدروسة، ويطلع مجلس الوزراء على تفاصيلها.
كما فوجئ بعض النواب بحدة لغة الوزير المصري، عندما نقل إليهم معلومات عن استعداد إسرائيل لشن حرب واسعة ومدمّرة إذا لم يتم تسليم حزب الله سلاحه. وكرر عبد العاطي الرسالة نفسها لرئيسي مجلس النواب والحكومة، نبيه بري ونواف سلام، مؤكداً أن «لا حدود للتصعيد الإسرائيلي المحتمل».
وفي عشاء أقيم على شرفه حضره نواب مستقلون وتغييريون، نقل عبد العاطي المخاوف الإقليمية والدولية، مشيراً إلى أن الوضع في لبنان قابل للتدهور السريع. ركز في كلمته على ثلاث نقاط رئيسية: سحب السلاح بالكامل جنوب الليطاني، بدء نزع السلاح شمال الليطاني مع التزام بعدم القيام بأي عمل عدائي تجاه إسرائيل، والدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية سعودية-أميركية. كما أشار إلى أن الهجوم الإسرائيلي المتوقع لن يقتصر على الضربات الجوية، بل يشمل عملية برية واستهداف مئات المواقع.
الأوساط المطلعة ترى أن الدبلوماسية المصرية المكثفة في بيروت تهدف إلى حماية اتفاق غزة والحفاظ على مصالح مصر الإقليمية، خشية أن يؤدي أي تصعيد إسرائيلي إلى مواجهات في غزة تهدد استقرار القطاع، أو دفع قادة حماس للتدخل في القاهرة، ما قد يفرض على مصر الرد ويزيد من توتر الحدود. وقد أكد الوزير المصري أن مصر لن ترسل قوات إلى غزة، لكنها ستضع قوات على الحدود لحمايتها من أي طرف.
في المقابل، شدد مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، على أن «وجود حزب الله أصبح أهم من الخبز اليومي بالنسبة للبنان»، مؤكداً استمرار دعم إيران للحزب، ومشيراً إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية تظهر الكوارث التي قد تنتج عن نزع سلاحه. كما كرر الحرس الثوري الإيراني تحذيره من ردّ المقاومة على أي اعتداء.
على الصعيد الإسرائيلي، واصلت الحكومة تهديداتها للبنان، حيث أكد وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن عدم تسليم حزب الله سلاحه يعني العودة للعمل العسكري، مشيراً إلى أن الأميركيين طالبوا الحزب بالتخلي عن سلاحه قبل نهاية العام، وهو أمر مستبعد. كما ألمح كاتس إلى إمكانية إعادة النظر في اتفاقية الحدود البحرية مع لبنان.
تقرير صادر عن مركز «ألما» الإسرائيلي، يستند إلى مصادر استخباراتية، رسم صورة قاتمة للوضع اللبناني وحزب الله، مؤكداً أن لبنان أصبح «قشرة فارغة»، بينما الحزب يواصل تثبيت حضوره كدولة داخل الدولة، ويمتلك ما بين 15 و20 ألف صاروخ وقذيفة، بينها صواريخ دقيقة، بعد أن كان مخزونه الأصلي 75 ألف صاروخ. وقد نقل مركز ثقل الحزب إلى البقاع مع الاعتماد على التصنيع المحلي والأنفاق لتجاوز استهداف خطوط الإمداد، مؤكداً تفوق الحزب اقتصادياً وعسكرياً على الدولة اللبنانية نفسها.
أما تقرير رئيس الأركان الإسرائيلي أيال زامير، فأكد أن فرص نجاح لبنان في تجريد حزب الله من سلاحه ضئيلة جداً، بل شبه معدومة، وأن الحزب قادر على السيطرة على لبنان مجدداً إذا قرر ذلك.