شركة غامضة وإشراف إسرائيلي: كيف تُدار عمليات تهجير الفلسطينيين عبر رحلات مستأجرة؟
في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل تضييق الخناق على سكان قطاع غزة وتدمير مقومات الحياة هناك، تتكشف خيوط جديدة تؤكد وجود مسار تهجيري موازٍ يجري بعيداً عن الأنظار، تديره شركات وهمية تعمل كواجهات غير رسمية لـ"مديرية الهجرة الطوعية" داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية. التحقيق الجديد يكشف تورّط شركة "استشارية" مجهولة الهوية، مسجلة في إستونيا ويديرها إسرائيلي يحمل جنسيتين، في تنظيم رحلات سرية نقلت مئات الفلسطينيين إلى دول آسيوية وإفريقية خلال الأشهر الماضية، في خطوة تبدو جزءاً من الهندسة الديموغرافية التي تسعى إليها تل أبيب منذ بداية الحرب.
شركة غامضة.. وواجهة لنشاط إسرائيلي رسمي
مصادر مطلعة كشفت أن شركة مجهولة الهوية تُدار من إستونيا، يملكها شخص يحمل جنسية إسرائيلية – إستونية، تولّت نقل نحو 350 فلسطينياً من القطاع إلى وجهات بعيدة مثل إندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا.
الرحلات انطلقت عبر مطار إيلات/رامون على متن طائرات مستأجرة، بعد ترتيب مباشر بين الشركة وبين ما يُعرف داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية بـ "مديرية الهجرة الطوعية".
شركة ظهرت باسم “المجد أوروبا” على موقع إلكتروني لا يحتوي على عناوين، ولا هواتف، ولا شركاء، وروابطه للتواصل الاجتماعي فارغة. بينما تشير النسخ الأقدم من الموقع إلى اسم شركة استشارية أخرى تدعى Talent Globus، وهي المسجلة فعلياً في إستونيا.
2000 دولار لرحلة إلى المنفى
التحقيق أظهر أن الشركة كانت تطلب من الغزيين نحو 2000 دولار للحجز على الرحلات، بينما وصل المبلغ ـ وفق شهادات فلسطينية ـ إلى 2700 دولار للشخص الواحد، بل ارتفع إلى 5000 دولار لتسريع الإجراءات.
العائلات كانت تُنقل من مواقع وسط القطاع نحو معبر كرم أبو سالم الخاضع بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، حيث تخضع لفحوصات أمنية، ثم تُنقل بحافلات مغلقة إلى مطار رامون.
الرحلات لم تُعلن مسبقاً، ويُبلّغ المسافرون بموعد الإقلاع قبل أقل من 24 ساعة، في مشهد يشي بأن العملية سرّية ومتناغمة مع خطط رسمية إسرائيلية.
من هو تومر يانار ليند؟
البحث في السجلات التجارية كشف أن شركة Talent Globus أسسها شخص يدعى تومر يانار ليند (مواليد 1989)، يحمل جنسيتين إسرائيلية وإستونية.
السجلات البريطانية تُظهر أنه أسس أربع شركات خلال العقد الماضي، أغلبها توقّف عن العمل.
ليند يذكر على صفحته في "لينكد إن" أنه "يساعد الغزيين". غير أن غياب أي بنية مؤسسية حقيقية، من مكاتب إلى موظفين إلى شركاء، يطرح سؤالاً مركزياً: هل هو مجرد واجهة لبرنامج تهجيري أكبر؟
موقع إلكتروني بلا هوية
الموقع الإلكتروني للشركة بدا أقرب إلى صفحة إنشائية منه إلى موقع لمؤسسة دولية:
لا عناوين
لا هواتف
لا أسماء إدارة
قائمة شركاء فارغة رغم الادعاء بالتعاون مع "15 مؤسسة دولية"
الصور المعروضة مسروقة من الإنترنت
روابط التواصل الاجتماعي معطلة
اللافت أن الموقع نفسه ينشر "شروط الهجرة الطوعية من غزة"، ويؤكد أن Talent Globus هي الجهة المنظمة لهذه الرحلات، مما يكشف محاولة لإضفاء الشرعية على خطوات مشبوهة.
آلية النقل.. خطوات محسوبة بدقة
وفق المعلومات، يجري جمع الفلسطينيين الراغبين في السفر من نقاط ثابتة في وسط القطاع، ثم:
1. نقلهم إلى معبر كرم أبو سالم.
2. فحص أمني سريع داخل المعبر.
3. نقلهم بحافلات نحو مطار رامون.
4. إركابهم طائرات مستأجرة إلى دول بعيدة، أغلبها ليست لديها جاليات فلسطينية واسعة ولا تعتبر وجهات لجوء طبيعية.
الطابع السري لهذه العملية، وغياب تنسيق دولي معلن، يعيد طرح السؤال: هل نحن أمام "قناة ترحيل" تمويهية تصنعها إسرائيل خارج الأطر الدبلوماسية؟
تهجير أم “هجرة طوعية”؟
يأتي هذا الملف في سياق الحرب الإسرائيلية التي استمرت لعامين على غزة، والتي حولت القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، وفق الأمم المتحدة. خلال الحرب، دعا وزراء إسرائيليون متطرفون إلى "تشجيع الفلسطينيين على مغادرة القطاع طوعاً"، في تكرار مباشر لخطاب التهجير.
ومع ما تكشفه هذه الرحلات، يبدو أن إسرائيل لم تعد تكتفي بخلق ظروف الطرد الجماعي عبر القصف والحصار، بل باتت تدير مسارات مُنظمة لنقل الفلسطينيين خارج وطنهم باستخدام شركات واجهة خارجية، لتجنب المساءلة الدولية.
هندسة ديموغرافية بغطاء إنساني
التحقيق يكشف أن ما يجري ليس مبادرة فردية ولا شركة تبحث عن مكاسب مالية، بل شبكة تهجير مقنّعة تحاول تقديم "الهجرة الطوعية" كحل، بينما الحقيقة أن الفلسطينيين يُدفعون نحو الرحيل تحت وطأة تدمير منازلهم وتجويعهم وإغلاق الأفق الإنساني أمامهم.
الرحلات التي بدأت بـ350 شخصاً قد تكون مجرد بداية لمسار أكبر تسعى إسرائيل لشرعنته، خطوة بخطوة، عبر شركات وهمية في دول أوروبية صغيرة، لإخفاء بصمة الدولة وفتح بوابات خروج لا عودة منها.
