في فبراير/شباط 2025، كشفت نتائج استطلاع جامعة إيمرسون عن مفاجأة غير مبشرة لزهران ممداني: 1% فقط من نوايا التصويت. كان اسمه مجهولاً لدى معظم سكان نيويورك، لا حضور له في الإعلام التقليدي، وفرصه في سباق يعج بشخصيات سياسية واسعة النفوذ تبدو شبه معدومة.
لكن الشاب الأميركي الأوغندي من أصول هندية ومسلمة اختار طريقاً لم يسلكه المرشحون الأميركيون عادة. ففي حين اكتفى منافسوه بالإنجليزية، قرر ممداني أن يتحدث إلى مدينة المهاجرين بلغاتها، مستعيناً بست لغات إضافية: العربية، البنغالية، الهندية، الأوغندية، الإسبانية، والأوردية.
هذا النهج غير المألوف حوّل التعدد اللغوي إلى خطاب سياسي مؤثر، ليصل مباشرة إلى قلوب سكان مدينة يشكل المهاجرون فيها ثلث السكان. وكانت النتيجة صاعقة: فوزٌ واضح بمليون و16 ألفاً و968 صوتاً (50.4%) على أندرو كومو، الحاكم السابق المدعوم بخزائن كبرى تجاوزت 40 مليون دولار. أما حملة ممداني، فاعتمدت على أقل من نصف هذا المبلغ، جمع أغلبه من متبرعين صغار، بينما كان سلاحها الحقيقي تواصلاً أصيلاً بلغات الناس وثقافاتهم.
فيديوهات قصيرة… بلغات غير مألوفة في السياسة الأميركية
لم تكن مفاتيح نجاحه إعلانات تلفزيونية باهظة أو ملصقات ضخمة في التايمز سكوير، بل مقاطع بسيطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر فيها شاب في الـ34 يتحدث بلغات نادراً ما تُسمع في السياسة الأميركية.
في أحد المقاطع، شرح ممداني نظام التصويت التفضيلي عبر مثال حلوى "الميشتي" البنغالية. وفي آخر، ناقش بالأردية تضخم أسعار "الدجاج فوق الأرز" الذي تضاعف سعره. وفي فيديو ثالث، تحدث بالإسبانية عن أزمة السكن مع عائلة لاتينية، وفي رابع ظهر بالبنغالية إلى جانب النائبة شهانا هانيف.
لم تكن المقاطع مجرد ترجمات، بل رسائل مصممة خصيصاً لكل مجتمع: إشارات إلى بوليوود مع الهنود، مفردات إسلامية مع العرب والباكستانيين، وأحاديث عن معاناة عمال التوصيل مع اللاتينيين. فهم ممداني أن نيويورك ليست مدينة واحدة بل عشرات المدن المتوازية، لكل منها عالمها اللغوي والثقافي.
تشير تقديرات الولاية إلى أن أكثر من 800 لغة تُنطق في نيويورك، وأن 2.5 مليون شخص يعانون صعوبة في التواصل بالإنجليزية بطلاقة. هؤلاء ظلوا مهمشين سياسياً لسنوات، ببساطة لأن أحداً لم يكلمهم بلغاتهم.
نسف أسطورة "بوتقة الانصهار"
اعتمدت الحملات الأميركية طويلاً على فكرة "بوتقة الانصهار"، التي تفترض ذوبان المهاجرين في هوية واحدة. لكن حملة ممداني كانت إعلاناً أن هذا التصور لم يعد واقعياً. قال بوضوح:
"أجرينا حملة تصل إلى كل سكان نيويورك، سواء كنتُ أجيد لغتهم أو كنتُ أحاول التحدث بها… التحالف الذي تشكل يعكس تنوع الأحياء الخمسة".
لم يطلب من الناس التخلي عن لغاتهم، بل أكّد لهم أن لغاتهم جزء من كونهم أميركيين، وأن الديمقراطية لا تكتمل إلا بترجمة نفسها إلى كل تلك الألسنة.
فوز تاريخي
أصبح ممداني أوّل مسلم يتولى منصب عمدة نيويورك، وأول أميركي من أصول جنوب آسيوية وأوغندية يصل لهذا الموقع، وأصغر عمدة في تاريخ المدينة الحديث، وثاني اشتراكي ديمقراطي بعد ديفيد دينكنز، وسابع عمدة مهاجر منذ 1834.
جذور شغفه باللغات: صيفٌ مصري لا يُنسى
يعود ولع ممداني باللغات إلى سنوات سابقة. ففي صيف 2013، وصل إلى القاهرة لتعلم العربية، بعد دراسة في برنامج اللغة بجامعة ميدلبري. التحق بدورة مكثفة لمدة ستة أسابيع، لكن رحلته تزامنت مع اضطرابات سياسية كبرى، إذ وصل قبل 11 يوماً من بداية الاحتجاجات المطالبة بعزل الرئيس الراحل محمد مرسي.
كتب في مذكراته "ملتحٍ في القاهرة" أن تجربته في المدينة كشفت له ازدواجية العربية بين الفصحى والعامية، وأدرك أن التواصل الحقيقي يبدأ من الشارع. ولأنه رجل أسمر ذو اسم مسلم، لم يُعامل كأجنبي، بل بدا واحداً من الناس. عاش لأول مرة إحساس الانتماء البصري والثقافي، على عكس ما كان يشعر به في الغرب حيث كان يُنظر إليه كأقلية.
تأمل أيضاً "رمزية اللحية" في الثقافات المختلفة: في أميركا قد تثير شبهة الإرهاب بعد 11 سبتمبر، أما في القاهرة فترتبط بالانتماءات السياسية، حتى أن البعض ظن أنه من الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من اضطراره لمغادرة مصر تحت ضغط عائلته القلقة، بقيت التجربة مؤثرة عليه، وربما كانت سبباً في لهجته العربية التي تحمل مزيجاً من مفردات مصرية وشامية.