تشهد واشنطن خلال الأسابيع الأخيرة نشاطاً سياسياً مكثفاً مرتبطاً بملف العقوبات على سوريا، في وقت تبرز فيه تحركات غير مسبوقة داخل الكونغرس الأميركي تهدف إلى إعادة تقييم القوانين التي شكّلت الأساس القانوني للعقوبات المفروضة خلال العقدين الماضيين، وعلى رأسها قانون "قيصر". ويأتي ذلك بالتوازي مع استعداد الكونغرس لعقد جلسة استماع واسعة في 20 تشرين الثاني تحت عنوان لافت: "أعطوا سوريا فرصة"، في مؤشر على تحوّل كبير في النقاش داخل المؤسسة التشريعية الأميركية حول المرحلة الجديدة في سوريا بعد سقوط النظام السابق وبروز قيادة انتقالية تمثل السلطة المركزية الجديدة.
وبحسب الدعوة الرسمية للجلسة، فإن الهدف الأساسي هو إعادة مقاربة ملف العقوبات على ضوء ما يوصف في واشنطن بـ"الفرصة التاريخية" لإعادة بناء الدولة السورية، وتقليص نفوذ القوى الإقليمية المنافسة للولايات المتحدة، وعلى رأسها روسيا وإيران والصين. ويؤكد منظمو الجلسة أن استمرار العقوبات بالشكل السابق قد يعيق مسار التحول السياسي، خاصة بعد أن علّق الرئيس الأميركي معظم العقوبات القديمة خلال الأشهر الماضية، بينما بقي قانون "قيصر" هو التشريع الوحيد الذي يقيّد حركة الحكومة السورية الجديدة.
وتستضيف الجلسة ثلاثة شهود رئيسيين يمثلون أطرافاً لها وزن رمزي وسياسي، أبرزهم فريد المذهان المعروف باسم "قيصر"، صاحب الصور التي شكّلت الأساس الأخلاقي لتمرير القانون عام 2019، إلى جانب يوسف حمرا، كبير حاخامات الطائفة الموسوية في سوريا، وميرنا برق رئيسة منظمة "سوريون مسيحيون من أجل السلام". ويتوقع أن يناقش الشهود مستقبل الدور الأميركي في سوريا وإمكانية الانتقال من سياسة العقوبات الواسعة إلى دعم عملية إعادة البناء والاستقرار.
ويظهر الاتجاه الجديد داخل الكونغرس من خلال تصريحات النائب جو ويلسون، رئيس الجلسة، الذي قال إنه يدعم إلغاء كامل لقانون "قيصر" من أجل منح سوريا فرصة لإعادة الانطلاق، في موقف يُعدّ من أكثر المواقف المباشرة التي تصدر عن عضو بارز في الحزب الجمهوري تجاه هذا الملف. لكن المسار ليس سهلاً، إذ ما يزال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، براين ماست، العقبة التشريعية الأبرز أمام إلغاء القانون بشكل نهائي. إلا أن ماست نفسه أبدى مؤخراً ليونةً بعد لقائه الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في واشنطن، مشيراً إلى أنه سيعيد النظر في موقفه.
وتزامناً مع هذه التحركات، أعلنت وزارتا الخزانة والتجارة الأميركيتان تمديد تعليق تطبيق معظم العقوبات المفروضة بموجب "قيصر" لمدة 180 يوماً. ويوضح البيان المشترك أن التعليق يشمل معظم بنود القانون، باستثناء المعاملات التي تشمل روسيا أو إيران، ما يشير إلى أن واشنطن تتجه نحو صياغة عقوبات أكثر دقة تستهدف النفوذ الخارجي بدلاً من المؤسسات المحلية.
وتعدّ زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض حدثاً محورياً في هذا السياق، إذ جاءت قبل إعلان التمديد بساعات قليلة، ما اعتبره كثيرون مؤشراً على رغبة الإدارة الأميركية بدعم المسار الانتقالي الجديد في سوريا.
وإلى جانب النقاش حول "قيصر"، شهد الكونغرس تحركاً آخر بالغ الأهمية، بعدما قدم ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ مشروع قانون يطالب بإلغاء قانوني "محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان لعام 2003" و"محاسبة سوريا المتعلق بحقوق الإنسان لعام 2012". هذان القانونان شكلا لعقدين من الزمن الإطار التشريعي للعقوبات، واستندت إليهما الإدارات الأميركية المتعاقبة لتوسيع الضغوط السياسية والاقتصادية على سوريا. ويبرر مقدمو المشروع المقترح بأن المرحلة الجديدة تحتاج أدوات مختلفة تهدف إلى دعم الاستقرار بدلاً من العقاب.
ووفق الإجراءات التشريعية، فإن المشروع يحتاج أولاً موافقة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ثم يرفع إلى التصويت في المجلس، قبل أن ينتقل إلى مجلس النواب، وصولاً إلى توقيع الرئيس ليصبح نافذاً. وعلى الرغم من أن الطريق ما يزال طويلاً، إلا أن مجرد طرح المشروع يكشف حجم التحول في المزاج السياسي الأميركي تجاه الملف السوري.
ويعود قانون "قيصر" نفسه إلى العام 2016 عندما أقرّه مجلس النواب، قبل أن يوقّع عليه الرئيس الأميركي عام 2019 خلال ولايته الأولى. وتم تصميمه لمعاقبة الجهات والأفراد والدول التي تقدم دعماً للنظام السوري السابق، سواء عبر التعاون العسكري أو المالي أو التقني. كما يمنع أي تمويل لإعادة الإعمار في سوريا ما لم يتحقق انتقال سياسي فعلي. وجاءت تسمية القانون اعتماداً على آلاف الصور التي سرّبها الضابط المنشق فريد المذهان والتي وثّقت وفاة آلاف المعتقلين تحت التعذيب.
وعلى الرغم من تأثير القانون على بنية النظام السابق، إلا أن المرحلة الراهنة تدفع باتجاه إعادة تقييم تلك الأدوات بما يتناسب مع التحول السياسي. فالمؤسسة الأميركية تجد نفسها اليوم أمام سؤال أساسي: هل تستمر في سياسة العقوبات الواسعة التي صُمّمت للتعامل مع واقع ما قبل سقوط النظام، أم تبدأ صياغة مقاربة جديدة داعمة للانتقال السياسي وإعادة الاستقرار؟
الإجابة عن هذا السؤال ستتضح في الأسابيع المقبلة، خصوصاً مع اقتراب جلسة الاستماع المرتقبة، ومع تنامي الأصوات الداعية لفتح صفحة جديدة في العلاقات الأميركية–السورية تقوم على دعم المؤسسات المدنية وإعادة الدمج الاقتصادي.