يكشف مركز رَع للدراسات الاستراتيجية، في دراسة تحليلية جديدة، عن تحوّل لافت في المقاربة الروسية تجاه الصراع السوداني الدائر منذ أكثر من عامين، حيث تمزج موسكو بين التهدئة الدبلوماسية والحضور العسكري الرمزي غير المعلن، في إطار مقاربة محسوبة لتثبيت نفوذها في البحر الأحمر دون الانزلاق إلى انحياز صريح لأي طرف داخلي. وتأتي هذه القراءة في ظل سباق دولي محتدم بين روسيا والولايات المتحدة والصين على ممرات الطاقة والنفوذ في الإقليم، بينما يسعى السودان إلى استخدام موقعه الاستراتيجي كورقة مساومة، في لحظة سياسية شديدة الهشاشة.
وتؤكد الدراسة أن الموقف الروسي الجديد يتسم بـ"التقدم الهادئ والتراجع التكتيكي"، خصوصاً بعد إعلان السفير الروسي في الخرطوم أندريه تشيرنوفول تعليق مشروع القاعدة البحرية ببورتسودان “بشكل مؤقت”، بالتزامن مع تقليل موسكو من أهمية تهديدات قوات الدعم السريع بالوصول إلى المدينة الساحلية.
ملامح المقاربة الروسية الجديدة — نفوذ بلا ضجيج
1. رسائل موسكو المزدوجة إلى أطراف الصراع
تشير الدراسة إلى أن تصريحات السفير تشيرنوفول التي وصف فيها تهديدات قوات الدعم السريع بأنها “دعاية إعلامية”، تعكس محاولة روسية لطمأنة الجيش السوداني دون استعداء الدعم السريع. وتقرأ الدراسة الخطاب الروسي كجزء من سياسة توازن دقيقة تجنب موسكو الظهور كطرف في المعادلة الداخلية، وتحافظ في الوقت نفسه على خطوط اتصال مفتوحة مع القوى العسكرية الفاعلة.
2. تعليق مشروع القاعدة: مناورة لا انسحاب
يفسّر مركز رَع تعليق مشروع القاعدة البحرية باعتباره إجراءً تكتيكياً يُمكّن موسكو من:
تجنّب إحراج سياسي في ظل غياب حكومة سودانية ذات شرعية جامعة.
عدم الظهور كطرف داعم للجيش ضد الدعم السريع.
إعادة ضبط المشروع وفق ترتيبات قد تكون أكثر قابلية للتنفيذ لاحقاً.
وتشير الدراسة إلى أن روسيا لا تبدو في وارد التخلي عن موطئ قدم في البحر الأحمر، الذي تعتبره بوابة استراتيجية تربط إفريقيا بالشرق الأوسط والمحيط الهندي.
3. نفوذ روسي متخفٍّ عبر أدوات غير مباشرة
تؤكد الدراسة أن موسكو باتت تعتمد على “النفوذ منخفض التكلفة” في إفريقيا، من خلال الشركات الأمنية والاستخباراتية، والدعم اللوجستي، والتسليح، بدلاً من نشر قوات نظامية.
وتكشف أن السودان يظل جزءاً من هذه المقاربة، حيث تعمل موسكو على تثبيت حضورها دون استفزاز القوى الغربية أو الإقليمية.
رهانات الجيش السوداني — اللعب على المحاور
1. استخدام الخرطوم للقاعدة كورقة تفاوضية
تحلل الدراسة تحرّكات الفريق عبد الفتاح البرهان باعتبارها محاولة لاستثمار التنافس الدولي.
وتذكر أن السودان قدّم للولايات المتحدة مقترحات تشمل:
إنشاء مركز مراقبة أميركي على البحر الأحمر.
فتح قنوات استخباراتية مع إسرائيل.
مراجعة الاتفاقات مع روسيا وإيران وتركيا.
وترى الدراسة أن هذا السلوك يعكس براغماتية دفاعية تهدف إلى تحسين موقع الجيش داخلياً وخارجياً.
2. تسليح روسي قيد التفاوض: موازنة بين واشنطن وموسكو
تؤكد الدراسة وجود مفاوضات بين الجيش السوداني وروسيا للحصول على مقاتلات Su-27 وSu-30 لتعويض الفجوة الجوية في مواجهة قوات الدعم السريع.
وتعتبر أن هذه الخطوة دليل على أن تعليق القاعدة لم يؤثر في عمق العلاقة العسكرية بين الخرطوم وموسكو.
3. مخاطر استراتيجية على المدى المتوسط
تحذر الدراسة من أن توظيف السودان للتنافس الدولي قد يتحول إلى سلاح ذي حدين:
المبالغة في الاقتراب من واشنطن قد تفقد الخرطوم دعم موسكو وبكين.
الانفتاح على إسرائيل قد يزيد التوتر الداخلي.
استجلاب الدعم العسكري الأجنبي قد يؤدي إلى تدويل الصراع.
وتلفت الدراسة إلى أن روسيا تمتلك أدوات ضغط اقتصادية وأمنية يمكن استخدامها في حال تضررت مصالحها.
أين تقف روسيا الآن داخل المشهد السوداني؟
ترى الدراسة أن روسيا تحاول التموضع وفق أربعة مبادئ:
1. الحفاظ على النفوذ دون الانخراط العسكري المباشر.
2. استمرار العلاقات العسكرية مع الجيش دون إعلان مكشوف.
3. إعادة صياغة مشروع القاعدة البحرية بما يناسب الظروف السياسية.
4. استخدام السودان كورقة ضمن مشهد أوسع في المواجهة مع الغرب.
وتؤكد الدراسة أن موسكو لا تراهن على طرف بعينه، بقدر ما تراهن على الدولة السودانية ككيان جيوسياسي، وعلى موقع السودان في منظومة البحر الأحمر الممتدة حتى القرن الأفريقي.
تخلص دراسة مركز رَع إلى أن الدور الروسي في السودان يبدو اليوم أكثر حذراً ومرونة مقارنة بالسنوات السابقة. فموسكو لا ترغب في خسارة موقع استراتيجي بالغ الأهمية، لكنها أيضاً لا تريد الزج بنفسها في صراع داخلي متفجر. وفي المقابل، يستخدم البرهان هذا التوازن الدولي لتحسين شروطه السياسية والعسكرية، ما يجعل السودان ساحة مفتوحة لإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي والدولي في منطقة البحر الأحمر.
وتحذر الدراسة من أن استمرار هذا النهج القائم على المناورة بين القوى الكبرى، دون وجود رؤية وطنية موحدة داخل السودان، قد يؤدي إلى تدويل الصراع وتحويل البلاد إلى ساحة تنافس مفتوح، وهو ما يحمل تداعيات خطيرة على استقرار الدولة ومستقبل الإقليم كله.