أثار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني موجة واسعة من الجدل – والضحك أيضاً – خلال جلسة في "تشاتام هاوس" بلندن، بعد كشفه أن السفارة السورية في أنقرة كانت “مستأجرة”، وأن النظام السابق في دمشق خسر العقار بسبب عدم دفع الإيجار. ورغم أن العبارة جاءت في سياق ساخر ظاهرياً، فإنها أعادت فتح واحد من أكثر الملفات حساسية في السياسة الخارجية السورية: ملف العلاقات مع أنقرة وإعادة هندسة التمثيل الدبلوماسي، في مرحلة حرجة من التحولات الإقليمية والدولية.
التصريح بدا عفوياً، لكنه في الواقع يحمل رسائل سياسية عديدة مرتبطة بإدارة دمشق الحالية للعلاقة مع تركيا، وبمحاولة ترميم الفوضى التي خلّفها “النظام السابق”، وفق تعبير الشيباني.
التصريح الذي فجّر موجة الضحك – وماذا يكشف فعلاً؟
قال الشيباني في الجلسة الحوارية إن مبنى السفارة السورية في أنقرة لم يكن ملكاً للدولة السورية، بل مستأجراً، وإن الحكومة السورية السابقة لم تدفع بدل الإيجار، مما أدى إلى خسارة العقار.
الكشف أحدث موجة ضحك في القاعة، لكنه كان – في العمق – إقراراً علنياً بفوضى الإدارة المالية والدبلوماسية التي طبعت سنوات ما قبل إعادة هيكلة وزارة الخارجية.
وبحسب مصادر دبلوماسية مطلعة، فإن الملف أُغلق لسنوات كاملة دون معالجة، في ظل العلاقات المتدهورة بين دمشق وأنقرة، خصوصاً خلال مرحلة القطيعة الكاملة بعد عام 2012.
لماذا تفتح دمشق الملف الآن؟ خلفيات سياسية واستراتيجية
1. رغبة في تظهير “قَطع” مع نهج النظام السابق
اختار الشيباني أن يعلن المشكلة في قلب لندن، أمام جمهور غربي، ليبعث رسالة بأن الحكومة الحالية تعيد مراجعة الملفات الفوضوية المتوارثة، وأنها تتحرك نحو إدارة “أكثر احترافية”.
2. في ظل انفتاح تركي تدريجي على دمشق
منذ أكثر من عام، تشهد تركيا تحولات محسوبة تجاه دمشق، بالتوازي مع:
رغبة أنقرة في ضبط ملف اللاجئين السوريين.
الحاجة للتفاهمات الأمنية في الشمال.
إدراك الطرفين أن القطيعة ليست عملية ولا قابلة للاستمرار.
وبالتالي، فإن فتح ملف السفارة جزء من عملية سياسية أوسع تشمل ترتيبات أمنية واقتصادية.
3. احتياج دمشق إلى بوابة تركية جديدة
الخارجية السورية تعمل على إعادة بناء بعثاتها الدبلوماسية في الخارج، وتركيا تُعدّ من أهم النقاط الحيوية، سواء من حيث عدد السوريين المقيمين فيها أو مصالح الدولة السورية هناك.
التحركات الجديدة – قنصلية غازي عنتاب وإعادة هندسة البعثات
أكد الشيباني في الجلسة:
افتتاح قنصلية في غازي عنتاب لتخفيف الضغط عن قنصلية إسطنبول.
الانتهاء من خيارين مناسبين كمقار محتملة للسفارة في أنقرة.
بدء إعادة هيكلة شاملة للبعثات الدبلوماسية السورية بداية العام المقبل.
هذه التحركات تشير إلى أن دمشق تتحرك نحو إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع تركيا، ولو تدريجياً، وفق صيغة لا تزال قيد التفاوض.
بين السخرية والرسائل العميقة
1. “خسرنا السفارة لأن أحدهم لم يدفع الإيجار”
الجملة ليست مجرد مزحة. إنها إشارة مباشرة إلى:
الفساد الإداري الذي كان يضرب وزارة الخارجية.
التخبط الذي طبع إدارة ملفات حساسة.
الحاجة لتبرئة الحكومة الحالية من التركة الثقيلة.
2. العلاقات السورية – التركية تدخل مرحلة “إعادة الصياغة”
إعلان خيارات جاهزة لمقر جديد في أنقرة يدل على:
تقدم المفاوضات أكثر مما يُعلن.
وجود مقاربة عملية داخل دمشق للمضي في التطبيع (أو إعادة العلاقات) وفق ما يسمح به التوازن الإقليمي.
3. رسالة إلى لندن والغرب: دمشق “تعيد ضبط بوصلتها” وليس لديها ما تخفيه
إطلاق التصريح في لندن – وليس في دمشق – محسوب سياسياً، ويوجه إشارة بأن سوريا تريد إظهار شفافية وانفتاح نسبي أمام العواصم الأوروبية.
لماذا تهتم لندن وأنقرة بهذا الملف؟
تركيا:
أنقرة ترى في وجود سفارة سورية كاملة على أراضيها خطوة ضرورية في:
تنظيم ملف اللاجئين.
التفاهمات الأمنية شمال سوريا.
ضبط حركة المعابر والحدود.
بريطانيا:
لندن تستثمر حضور الشيباني سياسياً في:
إعادة فتح قنوات مع دمشق بشكل غير مباشر.
فهم خارطة التحولات في الإقليم خاصة بعد تغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط.
اختبار مدى جدية الحكومة السورية في التحول الدبلوماسي.
تصريحات الشيباني حول “السفارة المفقودة” ليست طرفة دبلوماسية بل مؤشر على إعادة تشكّل العلاقة السورية – التركية وعلى إعادة هندسة السياسة الخارجية السورية بعد سنوات من الفوضى.
التعامل مع الملف الآن يعكس رغبة دمشق في استعادة حضورها الإقليمي وفتح خطوط مع القوى الفاعلة في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا، بالتوازي مع محاولة ترميم صورة الدولة في المحافل الأوروبية.
وبقدر ما أثار التصريح الضحك في القاعة، إلا أنه كشف واقعاً سياسياً عميقاً: سوريا تعيد صياغة حضورها الدبلوماسي، وتحاول التخلص من إرث ثقيل تركه النظام السابق – حرفياً ومجازياً.