برزت قضية الحوكمة في لبنان خلال السنوات الأخيرة كعامل أساسي لفهم الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد، حيث تكشف التجربة عن فجوة عميقة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي. تمتلك الدولة منظومة من القوانين والهيئات الرقابية، إلا أن ضعف تنفيذها واستمرار منطق الزبائنية والمحاصصة السياسية جعل الحوكمة مسألة شكلية أكثر منها فعلية.
المؤسسات العامة بين الفشل والهدر:
المؤسسات المملوكة للدولة تعمل في ظل غياب إطار قانوني موحد يحدد صلاحياتها وآليات الرقابة عليها المؤسسات في قطاعات حيوية كالكهرباء والمياه والاتصالات تعمل وفق أنظمة داخلية متباينة لا تخضع لمعايير الحوكمة الحديثة ما أدى إلى ضعف الشفافية وتداخل الصلاحيات وتحولها من أدوات إنتاج إلى عبء دائم على الموازنة العامة.
الإصلاحات تشمل وضع قانون واضح لتحديد طبيعة المؤسسات العامة ودور الدولة فيها واعتماد آليات تعيين شفافة لأعضاء مجالس الإدارة ونشر تقارير مالية سنوية مدققة وفق المعايير الدولية والتحول الرقمي للحد من الفساد وتحسين الرقابة على الإنفاق.
اختلال بنية الإنفاق العام:
الفترة بين 2017 و2024 شهدت خللاً بنيوياً في إدارة الشركات العامة الدولة تعاملت مع هذه الكيانات بوصفها قنوات إنفاق أكثر منها أدوات إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان شكلت أكبر مستنزف للموازنة العامة بينما ارتفعت التحويلات إلى قطاعات الصحة والمياه والنقل لتغطية الأزمات دون إعادة هيكلة التمويل المخصص لهذه المؤسسات استجابة آنية للأزمات دون رؤية إصلاحية طويلة الأمد التمويل لا يعتمد إلا على عدد محدود من المؤسسات الرابحة مثل إدارة التبغ والتنباك كازينو لبنان مرفأ بيروت والوكالة العامة للاستثمار في مطار بيروت.
غياب الإطار القانوني:
المؤسسات العامة المملوكة للدولة تعمل وفق قوانين عامة لكن غياب قانون واضح يحدد المسؤوليات وصلاحيات الدولة يجعل كل مؤسسة تعمل وفق قواعدها الداخلية ما يؤدي إلى تفاوت كبير في الإجراءات المالية وضعف الرقابة على الإنفاق والتوظيف خطوات تحسين الحوكمة تشمل وضع قانون واضح يحدد دور الدولة والمؤسسات العامة وتعزيز الإطار التنظيمي والرقابة توحيد الإجراءات المالية وزيادة الشفافية وضمان كفاءة واستقلالية مجالس الإدارة.
المحاصصة الطائفية وأثرها على الأداء:
المحاصصة الطائفية والتعيينات العشوائية في مجالس الإدارة ساهمت في تفاقم الأزمة. قطاع الكهرباء شكل نموذجاً واضحاً لفشل الإدارة العامة واستنزاف المال العام اليوم هناك نحو 90 مؤسسة عامة لا تؤدي وظائفها الأساسية وبعضها قائم شكلياً فقط الدعم الدولي لم ينجح في تحقيق إصلاح بسبب عدم تطبيق شروط الحوكمة والرقابة
الإصلاح يبدأ بالحوكمة:
يرى مراقبون أن ضعف الحوكمة هو السبب الرئيسي لتفاقم العجز المالي وتآكل الثقة بين المواطن والدولة والمجتمع الدولي أي إصلاح مالي لا يكتمل دون تطبيق القوانين القائمة تفعيل استقلال الهيئات الرقابية وربط المسؤولية بالمحاسبة اعتماد التحول الرقمي في الإدارة العامة لتقليص الفساد إنشاء هيئة ناظمة مستقلة لمراقبة عمل المؤسسات وضمان حقوق المواطنين.
لبنان يمتلك قوانين وأطر مؤسساتية لكن غياب التنفيذ الفعلي والرقابة والسيطرة على المحاصصة السياسية جعل الحوكمة شكلية الإصلاح الحقيقي يبدأ بتطبيق القوانين تعزيز الشفافية ضمان استقلالية المؤسسات وربط التمويل بالأداء وتحويل الإدارة العامة إلى نظام يقلص استغلال الموارد العامة ويعيد الثقة بين المواطن والدولة والمجتمع الدولي.