نيويورك تغيّر وجه السياسة: من يخيف فوز زهران ممداني؟

2025.11.09 - 08:11
Facebook Share
طباعة

 لم يكن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك حدثًا سياسيًا عابرًا في المشهد الأميركي، بل محطة فارقة في التحولات الفكرية داخل المجتمع الغربي. فالعمدة المسلم الأول لأكبر مدينة أميركية، لم يأتِ من قلب المؤسسة التقليدية، بل من هامش الغضب الشعبي ضد النخبة المالية والسياسية التي حكمت المدينة لعقود.

الانتخابات التي جرت وسط أجواء مشحونة، شهدت واحدة من أكثر المنافسات إثارة في تاريخ نيويورك الحديث. ممداني، الشاب الديمقراطي ذو التوجهات اليسارية، واجه أندرو كومو، الحاكم السابق للولاية الذي حاول العودة إلى الواجهة مدعومًا من لوبيات المال والأعمال، وحتى من الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب الذي رأى فيه سداً ضد “المد اليساري المتطرف”.

لكن صناديق الاقتراع حسمت لصالح “العمدة المختلف”. ملايين الناخبين، أكثر من مليوني صوت، من أصل 4.7 ملايين مسجل، اختاروا وجهاً سياسياً جديداً لا يخفي انتماءه الإسلامي، ولا يخشى رفع شعارات العدالة الاجتماعية، أو الدفاع الصريح عن فلسطين.

مدينة تبحث عن التغيير

بخطاب مشحون بالمبادئ، وعد ممداني بزيادة الضرائب على الأغنياء لتوفير خدمات عامة أفضل، وبجعل وسائل النقل مجانية، وتجميد الإيجارات المرتفعة، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولاراً للساعة بحلول 2030. في مدينة يرزح فيها ملايين تحت عبء تكاليف المعيشة الخانقة، بدا صوته أقرب إلى نبض الشارع منه إلى أبراج المال في “وول ستريت”.

لكن صعوده لم يكن مصدر قلق للاقتصاديين فقط. ففوزه، كما وصفت وكالة “رويترز”، أحدث صدمة حقيقية في تل أبيب. لأول مرة، يصل إلى هذا المنصب رَجل يعلن تأييده الصريح للفلسطينيين، وينتقد إسرائيل بوصفها “دولة فصل عنصري”، في مدينة تُعدّ أكبر تجمع لليهود في العالم خارج إسرائيل.

تل أبيب الغاضبة

لم تتأخر ردود الفعل الإسرائيلية في الظهور. سياسيون من مختلف الأحزاب في دولة الاحتلال وصفوا فوز ممداني بأنه “إنذار استراتيجي”، معتبرين أنه يمثل “تحولاً خطيراً في المزاج الأميركي”.
سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة داني دانون قال إن انتخاب ممداني “لن يُثني إسرائيل عن مواصلة عملها”، بينما وصفت نائبة وزير الخارجية شارين هاسكل فوزه بأنه “مقلق للغاية بالنظر إلى تاريخه العدائي تجاه إسرائيل”.

أما الوزير المتطرف إيتمار بن غفير فذهب أبعد من ذلك، حين قال إن “نيويورك انتخبت معادياً للسامية ومؤيداً لحماس”، واصفًا فوزه بأنه “عار سيدوّن في التاريخ”. حتى أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، وصف العمدة الجديد بأنه “رمز الجهاد الصامت”، داعيًا اليهود في نيويورك إلى “العودة إلى وطنهم الحقيقي”.

الهجوم الإسرائيلي امتد إلى الإعلام العبري الذي تناول فوز ممداني بلهجة هستيرية. صحيفة هآرتس سخرت من “حالة الذعر الشامل” في القنوات الإسرائيلية بعد بث إعلان انتخابي له يتحدث فيه بالعربية، في حين اعتبرت تايمز أوف إسرائيل أن مواقفه “المعادية لإسرائيل” أصبحت جزءاً من هويته السياسية.

بين فلسطين ونيويورك

منذ سنواته الجامعية، لم يُخفِ ممداني انحيازه التام للفلسطينيين. ارتدى الكوفية الفلسطينية، أسّس فرعاً لحركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، ورفع شعار “أنهوا الفصل العنصري الإسرائيلي”. في عام 2023، قدّم مشروع قانون يمنع تمويل ولاية نيويورك لعنف المستوطنين في الضفة الغربية، وفي 2025 أعلن أنه سيلغي “مجلس تعزيز العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل” الذي أنشأه سلفه.

لم يكتفِ بالتصريحات الرمزية، بل ذهب إلى حدّ القول إنه “سيعتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو” إذا زار نيويورك، لأن المدينة “يجب أن تتسق مع القانون الدولي”.

ورغم هذا الخطاب الصادم لتل أبيب، أكد ممداني في أول خطاب له بعد فوزه أنه “سيحمي كل مكونات المدينة بما فيها الجالية اليهودية”، وأنه سيرفع ميزانيات مكافحة جرائم الكراهية بنسبة 800%.

تحوّل في المزاج الأميركي

لكن قلق إسرائيل الحقيقي لا يرتبط بمواقف ممداني الشخصية، بقدر ما يعكس تحوّلًا عميقًا داخل الرأي العام الأميركي. فالمعركة في نيويورك لم تكن مجرد انتخابات بلدية، بل مؤشر على تراجع النفوذ الإسرائيلي في الوعي الأميركي، خصوصًا بين الشباب واليسار التقدمي.

استطلاع حديث لجامعة “كوينيبياك” أظهر أن 41% من الناخبين في نيويورك يؤيدون مواقف ممداني من إسرائيل، مقابل 26% فقط يؤيدون خصمه. أما صحيفة نيويورك تايمز فوصفت فوزه بأنه “نتيجة مباشرة لتغيّر المواقف تجاه إسرائيل بعد حرب غزة”، مؤكدة أن سكان المدينة “أصبحوا أقرب إلى رؤية ممداني للقضية الفلسطينية”.

من جهتها، كتبت وكالة “أسوشيتد برس” أن دعم إسرائيل لم يعد “ضرورة سياسية” كما كان لعقود، وأن انتخاب ممداني “كسر القاعدة التي جعلت الولاء لتل أبيب بوابة النجاح السياسي في أميركا”.

ما وراء الخوف الإسرائيلي

في جوهره، لا تَخشى إسرائيل ممداني بوصفه فردًا، بل بوصفه رمزا لبداية عصر جديد في الغرب. ففوزه، رغم المال والإعلام والضغوط السياسية، يبرهن أن الوعي الشعبي الأميركي بدأ يتحرر من سطوة الخطاب الإسرائيلي التقليدي.

إنه فوز سياسي، لكنه في الوقت نفسه تحوّل ثقافي وأخلاقي يعيد تعريف معنى “التحالف الأميركي الإسرائيلي” داخل المجتمع الأميركي ذاته. وربما لهذا تحديدًا، ترى تل أبيب في عمدة نيويورك الجديد تهديدًا أخطر من أي بيان سياسي أو مظاهرة تضامن مع غزة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 4