العدالة السورية بين الوعود والإنصاف: شهادات الضحايا والناجين

2025.11.02 - 09:36
Facebook Share
طباعة

 تصف وزارة العدل في الحكومة السورية الاعتقالات المتكررة التي طالت شخصيات أمنية وعسكرية بارزة متورطة في جرائم وانتهاكات خلال حقبة حكم نظام الأسد المخلوع بأنها “جزء من مسار العدالة وإعادة الثقة بالمؤسسات”.

لكن حقوقيين ومراقبين يرون أن هذه الخطوات تمثل اختباراً حقيقياً لجدية الحكومة في محاسبة رموز النظام السابق وملاحقة المتورطين في جرائم الحرب، وقدرتها على تحويل المحاكمات من مجرد إجراءات شكلية إلى مسار حقيقي يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.

وفي بلد مثقل بالانتهاكات مثل سوريا، تبدو العدالة اليوم ليست ترفاً قانونياً، بل ضرورة أخلاقية ووطنية لترميم ما تهشم من الذاكرة العامة، فهي الضمان الوحيد لمنع تكرار المآسي في جيل جديد لم يعرف الحرب لكنه قد يرث جراحها إن لم تتحقق العدالة.


من يُحاكم وبأي قانون وأمام أي قضاء؟
العدالة الانتقالية ليست شعاراً سياسياً ولا انتقاماً مؤجلاً، بل منظومة من الإجراءات القانونية والسياسية تهدف إلى كشف الحقيقة، محاسبة الجناة، جبر الضرر، وفتح الطريق أمام مصالحة وطنية قائمة على الاعتراف لا النسيان.

تجارب دول أخرى مثل جنوب إفريقيا، رواندا، لبنان، وتشيلي، أظهرت تنوع آليات العدالة الانتقالية بين محاكم خاصة، لجان تحقيق، وبرامج تعويض وإصلاح مؤسسات، مع هدف موحد: إنهاء دائرة العنف وبناء مستقبل قائم على المحاسبة.

في سوريا، تتضاعف التحديات بفعل تشابك الجرائم مع مصالح إقليمية ودولية، ما يجعل التوصل إلى نموذج شامل مهمة معقدة تتطلب توافقاً وطنياً ودعماً دولياً. السؤال الأكبر يبقى: كيف يرى السوريون شكل العدالة ومن أين تبدأ في وطن لم يلتئم جرحه بعد؟


من وراء القضبان ومن بقي خارجها؟
منذ سقوط نظام الأسد، تواصل السلطات السورية الجديدة إعلان اعتقال ضباط ومسؤولين سابقين متورطين في جرائم حرب وانتهاكات جسيمة، بينهم:
اللواء محمد حسن (كنجو)، النائب العام العسكري بسجن صيدنايا المعروف بـ"سفاح صيدنايا"، اعتقل في كانون الأول 2024.
اللواء إبراهيم حويجة، رئيس المخابرات الجوية الأسبق، متورط في اغتيالات واسعة، اعتقل في آذار 2025.
اللواء محمد إبراهيم الشعار، وزير الداخلية الأسبق، سلم نفسه في شباط 2025 ويحاكم حالياً.
المفتي أحمد حسون، مفتي الجمهورية السابق، ألقي القبض عليه في أثناء محاولته الفرار عبر مطار دمشق في آذار 2025.
اللواء الطيار عماد نفوري، مسؤول عن غارات جوية استهدفت المدنيين، اعتقل في نيسان 2025.
العميد رامي إسماعيل، مدير إدارة المخابرات الجوية في الساحل، اعتقل في تموز 2025 أثناء محاولة الهروب إلى لبنان.
وسيم الأسد، ابن عم بشار الأسد وأحد تجار المخدرات، اعتقل في حزيران 2025 بدمشق.
العميد رياض الشحادة، رئيس فرع الأمن السياسي بدمشق، اعتقل في تموز 2025 بعد ملاحقة استمرت أسابيع.
ناريمان مصطفى حجازي، "جزارة داريا"، اعتقلت في أيار 2025 لمشاركتها في مجازر داريا وجديدة الفضل.
العميد دعاس حسن علي، رئيس فرع أمن الدولة في دير الزور، اعتقل في حزيران 2025.

وأعلنت السلطات عن اعتقال شخصيات أخرى مثل اللواء ميزر صوان، العميد موفق حيدر، العقيد زياد كوكش، العقيد ثائر حسين، محمد داود ناصر (قناص الأسد)، عبد الرزاق المطلق، عامر جديع الشيخ، ومالك علي أبو صالح، والعميد عاطف نجيب.


العدالة في اختبار الإنصاف
العدالة لا تقاس فقط بملاحقة المجرمين، بل بمدى إنصاف الضحايا والناجين. يقول الناجون وذوو المعتقلين إنهم لا ينظرون إلى المحاكمات كلحظة انتقام، بل كاختبار لجدية الدولة في تحقيق العدالة.

تقول سمية عز الدين الفرج، شقيقة معتقل قضى تحت التعذيب: “المحاكمات اختبار واقعي لمدى جدية السلطة، والعدالة يجب أن تكون علنية وشفافة، فالقصاص لا يعني الانتقام، بل رد الكرامة”.

ويضيف حسن صبح، شقيق معتقل مفقود: “العدالة الحقيقية تبدأ بالاعتراف، عندما أرى قتلة أخي أمام القاضي فقط أشعر بالإنصاف”.

ويشير أيمن الجبلي، من ذوي الضحايا، إلى أن العدالة “ليست فقط قانونية، بل مجتمعية، ويجب أن تشمل كل سلسلة الجريمة، من من كتب التقرير إلى من نفذ داخل الزنزانة”.


كيف تصبح العدالة عادلة حقاً؟
العدالة الحقيقية في سوريا لا تكتمل بالمحاكم وحدها، بل تتطلب:
قوانين واضحة وقضاء مستقل
إشراك الضحايا فعلياً في مسار العدالة
كشف مصير المفقودين
تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً
علنية المحاكمات وحماية الشهود

ويؤكد المتحدث باسم وزارة العدل عبد الله الشيباني أن المحاكمات “تلتزم بأعلى معايير العدالة، مع حماية الشهود ودمج حقوق الضحايا ضمن مسار العدالة الانتقالية”.

لكن ذوي الضحايا يرون أن الخطاب الرسمي “بارد”، وما يزال بحاجة إلى خطوات عملية تظهر التزام الدولة بالمحاسبة، لأن العدالة تبنى بالفعل لا بالوعود.


بين الخطاب الرسمي وآلام الضحايا
السلطات السورية تضع مسار العدالة ضمن أطر بيروقراطية، بينما ينتظر الناجون خبراً واحداً: معرفة مصير أحبائهم والاعتراف بما جرى.

تقول إحدى الناجيات: “كل بيان حكومي عن العدالة يذكرنا بالسنوات التي كان نظام الأسد ينكر فيها وجود المعتقلين أصلاً”.

وفي حين تؤكد الحكومة أن العدالة طريق لإعادة الثقة بالمؤسسات، يرى السوريون أنها تعني استعادة صوت صودر واعتراف بجريمة لم تُسمّ بعد.


العدالة كمقياس للسلطة والضمير
يعتبر الصحفي محمد الحموي أن العدالة التي يستحقها السوريون “تجب أن تكون ضمن مسار وطني ودولي متكامل، يعيد للضحايا كرامتهم، يحاسب المجرمين، ويفتح الباب أمام دولة جديدة لا تبنى على الخوف والقمع”.

ويضيف أن هذا المسار لا يكتمل إلا بـ قضاء مستقل، حماية الشهود، توثيق مهني للجرائم، ومراقبة دولية تمنع تحويل العدالة إلى صفقة سياسية.

حتى الآن، لم تبدأ العدالة الانتقالية فعلياً في سوريا، لكنها أصبحت امتحاناً للسلطة ولضمير السوريين معاً، بين الرغبة في الإنصاف والخوف من النسيان.

السؤال الباقي: هل يمكن للعدالة أن تبنى فوق ركام الخوف، وهل يكفي اعتقال القتلة ومجرمي الحرب لتشفى ذاكرة أمة؟

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 1