تبدو دارفور اليوم وكأنها تعيش تكراراً مأساوياً لماضيها، حيث تتوالى مشاهد القتل والنزوح في مدينة الفاشر وسط صمت دولي مريب فبعد عقدين على إبادة 2003، تعود المنطقة إلى واجهة المأساة العالمية مجدداً، وهذه المرة في ظل حرب داخلية معقدة تجاوزت حدود الصراع العسكري إلى انهيار تام للإنسانية.
تقرّ صحيفتا نيويورك تايمز ووول ستريت جورنال في تقارير متطابقة أن ما يجري في الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية بل عملية "إعادة هندسة سكانية" تنفذها قوات الدعم السريع عبر القتل الممنهج والحصار والتجويع فوفق ما نقلته الصحيفتان، أُعدم مئات المدنيين في المستشفى الرئيسي، فيما تحولت الطرق المؤدية إلى طويلة إلى مقابر مفتوحة لجثث النازحين الذين حاولوا الهرب سيراً على الأقدام.
لكن الأخطر في المشهد –كما يرى مراقبون– أن دارفور أصبحت مختبراً لتوازنات النفوذ الإقليمي والدولي، فالدعم الخارجي الذي تتلقاه قوات الدعم السريع، كما تؤكد وول ستريت جورنال، يضاعف قدرتها على فرض واقع جديد، في وقت تعجز فيه المؤسسات الأممية عن التدخل الجاد هذه الموازين غير المتكافئة تنذر بتكريس تقسيم فعلي داخل السودان، حيث تسيطر جماعات مسلحة على الأقاليم وتفرض سلطتها بالقوة.
يرى مراقبون أن عودة الفوضى إلى دارفور تحمل ثلاث دلالات مركزية:
الأولى، أن الحرب لم تعد سياسية بقدر ما صارت حرب موارد وهوية، حيث يُستهدف المدنيون بناءً على انتماءاتهم.
الثانية، أن النظام الدولي فقد فعاليته في التعامل مع النزاعات الإفريقية، إذ اكتفى بالتصريحات دون أدوات ردع.
أما الثالثة، فهي أن السودان يتجه نحو سيناريو “تفكك تدريجي” تتنازع فيه القوى العسكرية السيطرة على الجغرافيا بدل الدولة.
وفي ظل تقديرات تتحدث عن أكثر من 12 مليون نازح و400 ألف قتيل، يبدو أن دارفور تتحول مجدداً إلى مرآة لضمير العالم العاجز فبينما تعلن العواصم الغربية إداناتها، تستمر آلة الحرب في حصد الأرواح، وكأن الدرس الدموي الذي كُتب قبل عشرين عاماً لم يكن كافياً لوقف تكرار التاريخ.