في تطور غير مسبوق داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أعلنت المدعية العسكرية العامة يفعات تومر يروشالمي استقالتها من منصبها، بعد ضغوط هائلة أعقبت تسريب مقاطع فيديو توثق جرائم تعذيب مروعة ارتكبها جنود الاحتلال بحق أسرى فلسطينيين في معتقل "سدي تيمان" جنوبي فلسطين المحتلة.
هذه الفضيحة التي انفجرت على وقع الغضب الشعبي والدولي من انتهاكات الاحتلال، كشفت الوجه الحقيقي للنظام العسكري الإسرائيلي الذي طالما تباهى بـ"أخلاقياته القتالية"، بينما تُظهر الوقائع منظومة ممنهجة من القمع والاعتداء الجنسي والتنكيل الجسدي ضد الأسرى الفلسطينيين.
فضيحة لم يعد بالإمكان احتواؤها
بحسب بيان جيش الاحتلال، قدمت يروشالمي استقالتها صباح الجمعة إلى رئيس الأركان إيال زامير، الذي قبلها فورًا، في محاولة لاحتواء تداعيات القضية التي باتت تهدد سمعة المؤسسة العسكرية داخليًا وخارجيًا.
لكن اللافت أن وزير الدفاع يسرائيل كاتس لم يكتفِ بالاستقالة، بل أعلن رسميًا عزلها من منصبها، متهمًا إياها بأنها وراء تسريب الفيديو الذي يُظهر مشاهد صادمة لتعذيب أسير فلسطيني في "سدي تيمان"، قائلاً إن "كل من ساهم في التشهير بالجيش الإسرائيلي سيُحاكم".
الخطوة، التي تبدو للوهلة الأولى إجراءً إداريًا، تعكس في الواقع محاولة للتعتيم على جرائم موثقة بالفيديو، بدلًا من محاسبة مرتكبيها. فبدل أن تتجه الحكومة نحو فتح تحقيقات شفافة في انتهاكات الجنود، لجأت إلى سياسة العقاب لمن سرب الأدلة، وليس لمن مارس الجريمة.
أجهزة كاشف الكذب ومطاردة الحقيقة
القضية تفجرت عندما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن التحقيق بدأ عن طريق الصدفة أثناء خضوع موظفة في النيابة العسكرية لاختبار "البوليغراف" (كاشف الكذب)، ليتبين وجود علاقة بينها وبين تسريب الفيديو المروع.
وبحسب صحيفة "هآرتس"، يشتبه المحققون في تورط شخصيات قريبة من رئيس الشرطة في تسريب المقاطع، وهو ما أثار أزمة غير مسبوقة بين الأجهزة الأمنية في إسرائيل، مع تزايد التكهنات بوجود صراع أجنحة داخل المؤسسة العسكرية على خلفية هذه الفضيحة.
"سدي تيمان".. جحيم في قلب النقب
المقطع الذي أثار العاصفة نشرته القناة الـ12 العبرية في الصيف الماضي، وظهر فيه جنود إسرائيليون يعتدون بوحشية على أسير فلسطيني من قطاع غزة، حيث وثقت اللقطات اعتداءً جنسياً جماعياً وتعذيباً جسدياً شديداً أدى إلى إصابته بتمزق في الأمعاء وفتحة الشرج، وكسور في الأضلاع والرئتين.
ووفق شهادات جمعها أطباء حقوق الإنسان الإسرائيليون والمنظمات الدولية، فإن معتقل "سدي تيمان" تحول إلى معسكر تعذيب يمارس فيه الاحتلال أبشع الانتهاكات بحق الفلسطينيين، في ظل صمت رسمي مطبق وغياب أي رقابة قضائية مستقلة.
تقارير حقوقية أكدت أن عشرات الأسرى الفلسطينيين، وبينهم أطفال ومسنون، احتُجزوا في ظروف مهينة، وتعرضوا للحرمان من الطعام والعلاج، فيما توفي عدد منهم تحت التعذيب. ورغم ذلك، تصرّ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على وصفهم بـ"معتقلي أمن الدولة" لتبرير الجرائم.
المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان طالبت إسرائيل بفتح تحقيق مستقل وشفاف في الانتهاكات داخل سجن "سدي تيمان"، واعتبرت ما جرى "جريمة حرب موثقة بالصوت والصورة".
في المقابل، حاولت الحكومة الإسرائيلية تصوير الحادثة على أنها "تسريب داخلي محدود" في محاولة لتجنب ملاحقات أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تتابع جرائم الاحتلال في غزة والضفة منذ عام 2021.
من جانبها، أدانت شخصيات سياسية وحقوقية عربية هذه الجرائم، مؤكدين أن ما يجري في سجون الاحتلال هو امتداد لسياسة ممنهجة لتصفية الأسرى الفلسطينيين وتعذيبهم، وليست حالات فردية كما تدّعي إسرائيل.
سقوط أخلاقي يكشف بنية الاستعمار العسكري الإسرائيلي
فضيحة "سدي تيمان" لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياق العام للحرب على غزة التي دخلت عامها الثاني، وسط تصاعد غير مسبوق في جرائم القتل والتعذيب.
فالجيش الإسرائيلي، الذي يبرر جرائمه بشعارات "محاربة الإرهاب"، يمارس منذ عقود سياسة ممنهجة لإذلال الفلسطينيين وكسر إرادتهم، سواء في الميدان أو خلف القضبان.
ويرى محللون أن استقالة المدعية العسكرية ليست سوى محاولة لتقديم "كبش فداء" مؤقت لامتصاص الغضب الداخلي، خصوصاً بعد الانتقادات التي وجهها نواب من المعارضة للجيش بسبب ما وصفوه بـ"انهيار القيم والانضباط العسكري".
الحقيقة أقوى من التعتيم
مهما حاولت إسرائيل طمس الأدلة، فإن الصور والفيديوهات من سدي تيمان أصبحت وثائق دامغة على طبيعة الاحتلال.
إنها ليست مجرد حادثة شاذة، بل مرآة تعكس ثقافة الإفلات من العقاب والعنف المؤسسي الذي يتغذى عليه المشروع الصهيوني منذ نشأته.
وإذا كان تسريب الفيديو قد أطاح بمدعية عامة، فإنه بالمقابل فضح منظومة كاملة من الوحشية والإجرام، تؤكد أن العدالة الحقيقية لن تتحقق داخل أروقة المحاكم الإسرائيلية، بل عندما يُحاكم الاحتلال نفسه أمام العالم.