تشهد الساحة اللبنانية - الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة تسارعاً في مناحٍ ميدانية وسياسية يتجلّى بأشكال عدة: تكثيف عمليات اغتيال واستهداف، ضغوط دبلوماسية وسياسية غربية، ورفع مستوى الجاهزية العملياتية في صفوف جيش الاحتلال من خلال مناورات وتدريبات وتلويح متكرر بـ«المعركة المقبلة» داخل العمق اللبناني. لكن ما يهم في هذه اللحظة ليس مجرد تعداد الأحداث، بل قراءة البنية التي تُنتج هذا المشهد: منطق القرار الذي يُحدّد اتجاهات المواجهة، وأدوات اللعب التي تُستعمل لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك.
من زاوية التحليل الاستراتيجي، الاغتيال لم يعد ظرفاً تكتيكياً معزولاً؛ بل أداة سياساتية-عسكرية تهدف إلى تكريس «قواعد اشتباك» جديدة تمنع الطرف الآخر من إعادة ترميم قدراته أو تطوير تكتيكاته، وفي الوقت نفسه تجعل من الزمن عامل ضغط على العمق المعادي. بهذا الفهم، تتحوّل سلسلة الاغتيالات والضربات إلى محاولة لفرض سقف استراتيجي يقيّد حركية الخصم ويختزل فرصه في إعادة بناء ما فقده.
إسرائيل تتصرف في هذا الإطار غالباً ضمن مساحة "ما دون الحرب"، اعتماداً على مسار دفاعي-وقائي يرتكز إلى منع بروز تهديدات جديدة بدل خوض مواجهة شاملة الآن. من هنا يأتي تكثيفها للعمليات الانتقائية والاغتيالات، لا كغاية في حد ذاتها بل كوسيلة لقطع الطريق أمام تعافٍ عسكري يُمكن أن ينقلب إلى تفوّق لاحق. وإذا جاز القول إنّ النار خبر، فالزمن في هذا السياق هو الحدث: من يملك القدرة على تدوير الزمن لصالحه سيحصد مزيداً من المكاسب التكتيكية والاستراتيجية.
الضغط السياسي يسير في موازاة الضغط العسكري. الوتيرة المتصاعدة للهجمات تترافق مع مسعى لتصوير «سلاح المقاومة» كمشكلة سياسية داخلية لبنانية، وهو ما يُستعمل لتسويق سياسات نزع السلاح أو تقييده باعتباره مدخلاً لإعادة ترتيب المشهد الأمني في لبنان. هنا يظهر الدور الأميركي بوضوح لدى بعض المراقبين: واشنطن ليست مجرد مؤيد خارجي، بل تبدو لاعباً مُحكِماً للإيقاع، تحاول استثمار الوقت والجغرافيا والضغط السياسي لمنع تحوّل انبعاث القدرات إلى واقع ميداني دائم يصعّب ضبطه لاحقاً.
هذا لا يعني أنّ خيار الحرب مستبعد تماماً، لكنّه أيضاً ليس حتماً وشيكاً. رفع مستوى الجاهزية في جيش الاحتلال، وتلوّح بعض الخطابات الإعلامية بإمكانية مواجهة قادمة، لا يساوي بالضرورة قرار انخراط واسع في القتال. ثمة حسابات تقديرية تؤخذ بعين الاعتبار لدى قادته: تبعات جولة شاملة على المستوى الإقليمي، التكلفة البشرية واللوجستية، والنتائج السياسية المصاحبة لأي مواجهة. بالتالي، اختياره لمساحة الضغط المتدرج يعكس رغبة في تحويل الإنهاك والتآكل إلى أدوات تفاوضية قبل أن تتحول إلى ذريعة للحرب.
المشهد الراهن إذن أقرب إلى «ميدان إعداد» منه إلى «ميدان حسم». إسرائيل تختبر ضغطها المتدرّج لتحويل القدرة التكتيكية المعزولة إلى تعديل عام في قواعد الاشتباك؛ بينما تسعى المقاومة إلى تدوير الزمن لصالحها عبر استكمال بناء قدراتها وتقليل الاحتكاك المباشر حيثما أمكن. وهنا تتبدى أهمية السؤال الاستراتيجي: من الطرف القادر على جعل الزمن حليفه؟ ومن الطرف الذي يخشى من الزمن ويبحث عن تسريع مسار المواجهة قبل اكتمال تحسّن قدرات الخصم؟
على المستوى الداخلي اللبناني، تحولات المعادلة العسكرية ترافقها محاولات سياسية وصحافية لصياغة خطاب داخلي يحمّل المقاومة مسؤولية الوضع الأمني، وهو ما يلتقي ومبادرات دولية تسعى لإقناع أطراف لبنانية باتباع حلول «فنية» تُفضي إلى قيود على السلاح. هذا المسار يحمل مخاطر بالغة، لأنه يتجاهل البعد المؤسساتي والهيكلي للقضية الأمنية في لبنان، ويتعامل مع السلاح كتعبير عن مشكلة تقنية يمكن حلّها عبر إجراءات فنية، في حين أنّ السلاح هنا مترسخ في بنى سياسية واجتماعية ومخاوف أمنية حقيقية لدى أطراف داخلية.
قراءة أخرى مهمة تشير إلى أن دوائر صنع القرار الإسرائيلية – الأميركية تدركان حساسية اللحظة، وتفضلان ضبط مستوى الاحتكاك حفاظاً على إمكانية استمرار الضغوط من دون دفع الأمور نحو مواجهة كلية. لذلك، يقومون بموازنة بين الضربات الانتقائية والضغوط السياسية، محاولين تحقيق أقصى مكاسب ممكنة بأدنى تكلفة يمكن تحملها.
في نهاية المطاف، لا ينبغي أن يُقاس المشهد بكمّ الأحداث، بل باتجاهها: هل تسير الأمور منطقياً نحو تثبيت قواعد اشتباك جديدة تقوّض قدرة لبنان والمقاومة على الاسترداد؟ أم ستنجح جهود الردع والمراوغة في إبقاء الصراع ضمن نطاقات قابلة للاحتواء؟ الإجابة بانتظار قدرة الأطراف على إدارة زمن المواجهة أكثر من إدارتهم للنيران وحدها.