رغم توقف القصف وبدء المباحثات حول إعادة الإعمار، إلا أن قطاع غزة يعيش واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية تعقيداً في التاريخ الحديث. سنتان من الحرب الإسرائيلية المدمّرة تركت خلفها جوعاً، دماراً، وأجيالاً مهددة بالضياع، في مشهد تصفه الأمم المتحدة بأنه "أزمة إنسانية ستمتد آثارها لعقود".
الواقع الإنساني: أجساد هزيلة وأمهات في خطر
بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، يعاني واحد من كل أربعة فلسطينيين في غزة من الجوع، من بينهم أكثر من 11 ألف امرأة حامل.
وأكد ممثل الصندوق أندرو سابرتون أن 70% من الأطفال حديثي الولادة يولدون خدّجاً أو بوزن منخفض، مقارنة بـ20% قبل الحرب، مشيراً إلى أن ثلث حالات الحمل أصبحت عالية الخطورة، بينما معدل وفيات الأمهات في ارتفاع مستمر نتيجة انهيار الخدمات الطبية.
هذه الأرقام تكشف أن سوء التغذية الحاد لم يعد مجرد أزمة مؤقتة، بل تهديداً جينياً لمستقبل الأجيال القادمة، إذ يحذر الخبراء من مشكلات نمو وإعاقات دائمة لدى الأطفال الذين يولدون في ظروف الجوع والحصار.
منظومة صحية مدمّرة
لم يسلم القطاع الصحي من التدمير، فوفق منظمة الصحة العالمية، 94% من المستشفيات تضررت أو دُمّرت بالكامل، فيما لم يتبقّ سوى 14 مستشفى تعمل جزئياً من أصل 36.
ويقول المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبرييسوس إن غزة بحاجة إلى سبعة مليارات دولار على الأقل لإعادة بناء نظامها الصحي، محذراً من "نظام طبي على حافة الانهيار التام".
الأزمة لا تقتصر على البنية التحتية، بل تمتد إلى نقص الأدوية، وغياب الكوادر الطبية، وانعدام الكهرباء والمياه، ما يجعل أي جهد إنساني في الوقت الراهن أشبه بمحاولة "إنعاش جسد يحتضر".
التعليم المفقود.. نحو جيل بلا مدارس
حذّرت منظمة اليونيسف من أن غزة تواجه خطر "ضياع جيل كامل"، إذ 85% من المدارس دُمرت أو لم تعد صالحة للاستخدام، فيما تحوّلت معظم ما تبقّى من المدارس إلى ملاجئ للنازحين.
وبحسب المنظمة، فإن أطفال غزة مهددون بسنة ثالثة أو رابعة من دون تعليم، ما يعني جيلاً بأكمله بلا معرفة، بلا مهارات، وبلا أمل في مستقبل مستقر.
خسائر مادية فادحة.. وركام بحجم قارة
قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تكلفة إعادة إعمار غزة بنحو 70 مليار دولار، في عملية قد تستغرق عقداً أو أكثر.
فقد دُمّر نحو 193 ألف مبنى، أي ما يعادل 78% من إجمالي مباني القطاع، فيما ارتفعت نسبة الدمار في مدينة غزة إلى 83%.
أما البنية التحتية، فانهار منها 90%، وتشمل شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، بينما 68% من شبكة الطرق أصيبت بأضرار جسيمة.
وتشير التقديرات إلى أن كمية الركام في القطاع بلغت 61.5 مليون طن، أي ما يعادل ستة آلاف مرة وزن برج إيفل، و170 مرة وزن برج "إمباير ستيت" في نيويورك.
مأساة الأطفال والألغام
لم تقتصر الحرب على الدمار المادي، بل خلّفت كارثة إنسانية مروعة؛ إذ أصبح 17 ألف طفل في غزة يتامى أو منفصلين عن ذويهم، وفق إحصاءات اليونيسف.
وتبقى الأخطار محدقة حتى بعد الهدوء، إذ تؤكد دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (UNMAS) وجود 7,500 طن من الذخائر غير المنفجرة، تستغرق 14 عاماً لإزالتها بالكامل، ما يجعل حياة المدنيين مهددة لسنوات طويلة قادمة.
بين أنقاض المدن وأجساد الأطفال المنهكة، ترسم غزة اليوم ملامح مأساة ممتدة عبر الأجيال. فالإعمار، مهما كان حجمه، لن يرمم جراحاً نفسية وجسدية بهذا العمق.
ووسط أرقام الدمار والجوع، تلوح غزة كمرآة للضمير الإنساني العالمي: هل يمكن للعالم أن يعيد الحياة إلى مكان تحوّل إلى أطلال، وإلى أطفال وُلدوا تحت الركام؟