لم تكن سخرية دونالد ترامب من الصحفية الفرنسية سونيا دريدي مجرد "دعابة ثقيلة" في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، بل بدت امتدادًا لأسلوب ممنهج يطبّقه الرئيس الأمريكي في ولايته الثانية: تحجيم النقد الخارجي وتوجيه النقاش الإعلامي لخدمة رؤيته الخاصة للصراع في الشرق الأوسط.
ففي اللحظة التي وجهت فيها الصحفية سؤالها عن تصرفات إسرائيل وملف ضم الضفة الغربية، اختار ترامب أن يسخر من لهجتها لا من مضمون سؤالها، في مشهدٍ يعبّر عن احتكار الصوت الأميركي لمساحة السرد، وتهميش أي رؤية أوروبية أو دولية.
يتزامن هذا السلوك الإعلامي لترامب مع تحوّل جوهري في إستراتيجية إدارته تجاه إسرائيل وغزة؛ إذ لم يعد الرئيس الأمريكي يتحدث من موقع "الوسيط" بل من موقع الضابط لإيقاع القرار الإسرائيلي، في الوقت الذي تتزايد فيه مؤشرات التوتر داخل البيت الأبيض بسبب تجاوزات تل أبيب في غزة والضفة.
وفي خلفية المشهد، تتقاطع حادثة السخرية مع تحذيرات سابقة لترامب بأن إسرائيل "ستفقد كل دعم أمريكي إذا أقدمت على ضم الضفة الغربية"، وهي رسالة لا تبدو موجهة إلى نتنياهو وحده، بل إلى المؤسسة السياسية الإسرائيلية بأكملها، التي بدأت تدرك أن واشنطن الجديدة ليست واشنطن بايدن أو أوباما — بل واشنطن ترامب: الحازمة والمشروطة بالصفقة.
أما على المستوى الإعلامي، فقد أصبحت غرف الصحافة في البيت الأبيض نفسها جزءًا من معركة ترامب ضد "النخب الليبرالية" و"الإعلام الأجنبي".
فوفقًا لتقارير عدة، تشهد الإدارة الحالية إعادة هيكلة غير مسبوقة للاعتمادات الصحفية، تقلص فيها مساحة وسائل الإعلام الدولية، مقابل توسيع حضور مؤيدي حركة Make America Great Again ومنصات البودكاست المحافظة، في محاولة لصنع بيئة إعلامية متجانسة تخدم روايته السياسية.
من منظور التحليل السياسي، يمكن القول إن سخرية ترامب من لهجة الصحفية الفرنسية ليست عفوية، بل أداة رمزية لفرض هيمنة السرد الأميركي على النقاش الدولي حول إسرائيل.
إنها طريقة لإرسال رسالة مزدوجة:
للأوروبيين: أن واشنطن لم تعد تتسامح مع أي خطاب "ناقد" لسلوك إسرائيل إذا لم يمر عبر بوابتها.
وللإسرائيليين أنفسهم: أن دعم أمريكا ليس مفتوحًا بلا ضوابط، وأن الرئيس الأمريكي وحده من يملك مفاتيح الدعم أو العقوبة.
بذلك، يتحول المشهد من مجرد "مؤتمر صحفي ساخر" إلى عرض سياسي إعلامي متكامل، يعكس فلسفة ترامب في إدارة الملفات الدولية:
> السيطرة على السرد أولًا... ثم التحكم في القرار.
بين نبرة السخرية ونغمة التهديد، يرسم ترامب حدودًا جديدة للعلاقة مع إسرائيل والعالم.
فالبيت الأبيض لم يعد يكتفي بتأديب الصحافة الأجنبية، بل يستخدمها كمنصة لإعادة صياغة الخطاب السياسي الأميركي تجاه الشرق الأوسط.
وفي ظل هذه المعادلة الجديدة، يبدو أن من يطرح الأسئلة لم يعد هو الصحفي، بل الرئيس نفسه — يسأل، يجيب، ويعيد تشكيل الحقيقة وفق روايته.