تواجه سوريا أحد أكثر الملفات تعقيدًا منذ بداية الحرب وهو قضية المفقودين، حيث لا تعرف عشرات آلاف العائلات مصير أحبائها، وتعيش حالة من القلق المستمر والمعاناة اليومية. كلمات إحدى السيدات التي قالتها لرئيس الهيئة الوطنية للمفقودين محمد رضا جلخي تصف الواقع بدقة: "نحن ميتين عايشين، لا نريد المال ولا الإغاثة، نريد معرفة مصير أزواجنا" في هذا السياق تسعى الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا إلى الاستفادة من التجربة البوسنية التي تمكنت من تحقيق نجاح ملحوظ في تحديد مصير المفقودين حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على انتهاء الحرب في البلقان.
زيارة ملهمة… التجربة البوسنية
زار وفد سوري البوسنة والهرسك واطلع على عمل معهد المفقودين، والنيابة العامة، والمجتمع المدني، وأسر الضحايا، بالإضافة إلى زيارة النصب التذكاري للإبادة الجماعية في سربرنيتسا، حيث التقى الوفد بالأمهات اللواتي يحافظن على قضية المفقودين كرمز للعدالة والذاكرة التاريخية. وأكد رئيس الهيئة محمد رضا جلخي أن تجربة البوسنة ملهمة ليس فقط لما حققته من تحديد مصير نحو 75% من المفقودين، بل أيضًا لأهمية إشراك الأهالي والأمهات في العملية، ما منح القضية بعدًا إنسانيًا وقانونيًا متينًا.
التشريعات والإطار القانوني:
تعلمت الهيئة السورية من البوسنة أهمية وجود إطار قانوني متين يدعم العملية على المدى الطويل، كما هو الحال في قانون الأشخاص المفقودين البوسني لعام 2004 الذي أسس المعهد الوطني الممول بالكامل من الدولة، وهو ما أتاح استمرارية العمل لعقود بعد انتهاء الحرب.
تعتمد سوريا على هذا الدرس في تطوير مسودة قانون خاص بالمفقودين، مع التركيز على التنسيق مع مؤسسات الدولة الأخرى، وتخليد ذكرى المفقودين لضمان حقوق الأسر والمفقودين على حد سواء.
البنية العملياتية والكوادر المتخصصة:
تهدف الهيئة إلى إنشاء بنك وطني للمفقودين لتحديد الأعداد الرسمية، وهو ما يُبنى عليه تقديم الدعم اللازم للأسر. كما تعمل الهيئة على افتتاح سبعة مراكز ميدانية على امتداد الأراضي السورية وخارجها لمتابعة المفقودين السوريين. وتعكف الهيئة على إعداد برامج تدريبية متنوعة للكوادر السورية لتمكينهم من التوثيق الاحترافي والتعامل مع المقابر الجماعية، وتطبيق تكنولوجيا الحمض النووي والبصمة الوراثية بشكل مهني، ما يعزز قدرة الهيئة على تحديد الهويات بدقة.
دور العائلات وأهمية المشاركة:
في تصريحات لوسائل الإعلام أكدت سميرة كريهيتش، رئيسة برنامج غرب البلقان في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، أن إشراك العائلات منذ البداية يعد حجر الزاوية لنجاح العملية، إذ يسهم الإبلاغ عن المفقودين وتقديم معلومات دقيقة عن مواقع الدفن في تعزيز الشفافية والمصداقية، كما يشجع على متابعة العمل والدفاع عن حقوق المفقودين وأوضحت أن المشاركة الفعّالة للعائلات تشمل البحث عن المعلومات وطرح الأسئلة ومحاسبة المؤسسات لضمان شمولية العملية وبنائها على الحقيقة والعدالة.
المبادئ الأساسية المستفادة:
أبرز الدروس المستفادة من التجربة البوسنية تركز على ضرورة ترسيخ الإرادة السياسية، إنشاء مؤسسات متخصصة، دمج العملية في أطر سيادة القانون، الاعتماد على العلم منذ البداية، وضمان مشاركة العائلات.
كما أوضحت التجربة البوسنية أهمية قاعدة بيانات مركزية لتوثيق معلومات المفقودين وعائلاتهم وظروف اختفائهم، ما يسهم في تتبع التقدم وتوحيد البيانات على المدى الطويل.
السباق مع الزمن:
يبقى التحدي الأكبر هو السباق مع الزمن إذ تزداد صعوبة الجهود مع وفاة الشهود أو انتقال الأسر أو فقدان الأمل. وتؤكد اللجنة الدولية أن الاستفادة من الدروس البوسنية توفر فرصة لسوريا لتأسيس عملية مستدامة لتحديد مصير المفقودين وضمان حقوق عائلاتهم وتحويل المعاناة الشخصية إلى نظام رسمي للتوثيق والعدالة، بما يرسخ قواعد العدالة والمساءلة ويؤسس لتجربة متكاملة في إدارة هذا الملف الإنساني المعقد.