في بلدٍ يعيش على حافة الانهيار الاقتصادي منذ خمس سنوات، يعود موظفو القطاع العام إلى الميدان من جديد، وهذه المرة تحت شعار الغضب والكرامة. فالدعوة إلى الإضراب التي أطلقتها رابطة موظفي القطاع العام ليوم الخميس ليست مجرّد تحرّك نقابي عابر، بل مؤشر على عمق الانفجار الاجتماعي الذي يتهدّد الإدارة اللبنانية من الداخل، حيث يختنق الموظفون بين رواتب فقدت قيمتها ووعودٍ رسمية لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
في حديثهم إلى موقع “لبنان الكبير”، يؤكد عدد من الموظفين أنّ “العيش أصبح مستحيلاً”، وأنّ صبرهم وصل إلى نهايته، في ظلّ تجاهلٍ رسميّ تام لمعاناتهم فالمطالب التي يرفعونها اليوم ليست جديدة، لكنها تكتسب بعدًا أكثر خطورة مع اقتراب موعد إقرار موازنة 2026، التي يُفترض أن تحمل إصلاحات طال انتظارها.
أزمةٌ تتجاوز الأجور إلى بنية الدولة:
المطلب الظاهري للتحرّك يتمحور حول تصحيح الأجور، لكنّ جذور الأزمة أعمق من ذلك بكثير فالموظف العام في لبنان لم يعد يواجه فقط أزمة رواتب، بل يعيش وسط انهيارٍ إداريٍّ شامل، بعد أن فقدت مؤسسات الدولة قدرتها على تأمين الخدمات الأساسية أو الحفاظ على كفاءاتها البشرية.
الانكماش في مداخيل العاملين دفع آلاف الكفاءات إلى البحث عن فرص خارج القطاع العام، بل وخارح البلاد أحيانًا، ما جعل الجهاز الإداري يترنّح أمام موجة الإحباط والهجرة.
الإضراب كأداة ضغط أخيرة:
الإضراب الحالي يأتي كـ صرخة تحذير في وجه السلطة السياسية فالموظفون الذين وصفوا حالتهم بـ"الذلّ المعيشي" يرون أن الاحتجاج هو الوسيلة الوحيدة التي تبقّت للدفاع عن كرامتهم.
وتؤكد الرابطة أن التحرك يهدف إلى "إعادة صوت الموظف إلى مكانه الطبيعي في النقاش العام"، في وقتٍ تتقاطع فيه الأزمات المعيشية مع الجمود السياسي وتعطّل مؤسسات القرار.
رسائل سياسية تحت غطاء مطلبي:
ورغم أن الإضراب يحمل طابعًا معيشيًا، إلا أنّه يوجّه رسالة سياسية صريحة إلى الحكومة والبرلمان: مفادها أن انهيار الإدارة العامة يعادل انهيار الدولة نفسها.
فالموظف العام هو الركيزة التي تقوم عليها المرافق الحيوية، من الأمن إلى التعليم والقضاء. وعندما يُترك بلا دعمٍ أو حماية، فإنّ الشرخ يتسع بين الدولة ومواطنيها.
يرى خبراء، الإضراب يعكس أيضًا أزمة انعدام الثقة بين السلطة والطبقة العاملة، في ظلّ غياب رؤية اقتصادية شاملة أو خطة لإصلاح الخدمة المدنية.
انعكاسات اجتماعية واقتصادية واسعة:
إن استمرار تدهور رواتب موظفي القطاع العام لا يعني فقط تراجع مستوى المعيشة، بل يؤدي إلى شلل إداري واسع ينعكس مباشرة على حياة المواطنين.
تأخّر المعاملات الرسمية، ضعف الرقابة، وتعطّل المرافق العامة أصبحت جميعها ظواهر يومية. هذا الواقع يخلق بيئة خصبة للفساد والزبائنية، إذ يلجأ المواطن إلى الوساطات بدلاً من القانون، فيتحوّل الإضراب من مطلبٍ نقابي إلى رمزٍ لفشل النظام الإداري اللبناني برمّته.
إدارةٌ على مفترق مصيري:
الإضراب المنتظر محكّ حقيقي لمدى قدرة الدولة اللبنانية على الإصغاء إلى موظفيها فإما أن يشكّل هذا التحرّك فرصة لإعادة النظر في منظومة الرواتب والإدارة العامة، أو يكون خطوة أخرى في مسار الانحدار البطيء نحو انهيارٍ إداري يصعب إصلاحه لاحقًا.