خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر لما يقارب العامين، ومع ما خلّفه من دمار واسع وفراغ أمني وتدهور إداري حاد، برزت إلى السطح ظاهرة أمنية واجتماعية خطيرة تمثلت في ظهور جماعات مسلحة محلية خارجة على القانون، مارست أعمال العنف والسلب داخل القطاع، واستهدفت المدنيين وشاحنات المساعدات الإنسانية، مستفيدةً من حالة الفوضى والانهيار المؤسسي التي رافقت الحرب.
وتُتابع وحدة الدراسات الفلسطينية في مركز راع للدراسات الاستراتيجية هذه الظاهرة باعتبارها مؤشرًا بنيويًا على التحولات العميقة في المشهد الأمني والاجتماعي داخل غزة، وتحولًا نوعيًا في توازن القوى المحلية، بما قد يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الداخلي، ويُضعف فرص إعادة الإعمار بعد اتفاق شرم الشيخ للسلام في أكتوبر الجاري.
وقد رُصد نشاط عدد من التشكيلات المسلحة البارزة التي ظهرت خلال الحرب واستمرت بعد وقفها، من أبرزها:
مجموعة ياسر أبو شباب في رفح،
بعض العناصر المسلحة المنتمية لعشيرة المجايدة في خان يونس،
وما يُعرف بـ“الجيش الشعبي” في شمال القطاع.
تأتي هذه الدراسة لتقدّم تحليلًا معمقًا لأصول هذه التنظيمات، وبُنى تمويلها، وصلاتها المحتملة مع أطراف خارجية، مع التركيز على الدور الإسرائيلي في توظيفها كأداة لإرباك المشهد الفلسطيني الداخلي. كما تتناول انعكاسات هذه التطورات على مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار، وعلى احتمالات استقرار القطاع أو انزلاقه إلى صدامات داخلية.
أولًا: المشهد العام وملامح الظاهرة
شهد قطاع غزة في الأشهر الأخيرة تصاعدًا لافتًا في أنشطة جماعات مسلحة محلية غير خاضعة لسلطة المقاومة أو الأجهزة الأمنية، استغلت حالة الفوضى التي خلّفها العدوان الإسرائيلي والحصار المطبق.
تشير تقارير ميدانية متعددة إلى تورط هذه الجماعات في عمليات سرقة منظمة للمساعدات الإنسانية، واستهداف الصحفيين، وارتكاب أعمال عنف وابتزاز ضد المدنيين، بل والتجسس لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
وقد أدى ذلك إلى تصاعد الغضب الشعبي ضدها، لاسيما بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مطلع أكتوبر.
استجابت حركة حماس لهذه التطورات بعمليات أمنية محدودة النطاق لاستعادة السيطرة، إلا أن حجم الفوضى وامتدادها يشيران إلى تحوّل هذه الجماعات إلى ظاهرة مركبة تحمل أبعادًا عشائرية وأمنية واقتصادية، وليست مجرد أعمال إجرامية فردية.
ثانيًا: أبرز التنظيمات المسلحة داخل القطاع
1. مجموعة ياسر أبو شباب (رفح)
يُعد ياسر أبو شباب أحد أبرز القادة المحليين المنتمين لقبيلة الترابين في رفح، وقد ظهرت مجموعته المسلحة خلال فترة العدوان الإسرائيلي مستغلةً غياب السلطة المركزية.
تشير تقارير دولية – منها ذا غارديان البريطانية (سبتمبر 2025) – إلى أن أبو شباب يقود تشكيلًا يوصف بأنه "قوات شعبية مدعومة لوجستيًا من أطراف خارجية"، وأنه يتعاون مع قوات الاحتلال الإسرائيلية في السيطرة على مناطق توزيع المساعدات ونهبها بالقوة.
كما كشفت سكاي نيوز البريطانية (أكتوبر 2025)، نقلاً عن وثيقة أممية (نوفمبر 2024)، أن مجموعته مسؤولة عن السرقة الممنهجة للقوافل الإنسانية داخل القطاع.
2. عشيرة المجايدة (خان يونس)
تُعد “المجايدة” فصيلاً عشائريًا مسلحًا أكثر منها تنظيمًا أيديولوجيًا.
وقد برزت في المواجهات التي دارت مؤخرًا بينها وبين أجهزة الأمن التابعة لحماس، بعد اتهامات بتورط بعض عناصرها في سرقة المساعدات والمتاجرة بها أثناء العدوان، حتى لُقبت بـ"تجار الحرب".
كما رُبط بعض أفرادها بعلاقات ميدانية مع مجموعة أبو شباب، ما دفع الأجهزة الأمنية إلى مطالبة العائلات برفع الغطاء العشائري عن أفرادها الخارجين عن القانون.
3. الجيش الشعبي (شمال القطاع)
جماعة مسلحة أعلنت نفسها في شمال غزة، تتبنى خطابًا متمردًا على سلطة المقاومة، وظهرت في صور ميدانية تمتلك تجهيزات ومركبات عسكرية.
تُشير بعض التقارير إلى احتمال حصولها على دعم لوجستي خارجي أو على الأقل استفادتها من حالة الفراغ الأمني في مناطق الشمال، في محاولة لتأسيس بديل عسكري عن سلطة حماس هناك.
ثالثًا: مصادر التمويل والدعم
1. تمويل محلي عبر شبكات التهريب والعشائر.
2. تجنيد بالمال والنهب مستفيد من ظروف الفوضى والبطالة.
3. دعم خارجي مباشر أو غير مباشر من أطراف ترى في هذه الجماعات أداة لإضعاف المقاومة وإرباك المشهد الداخلي.
تقدّر وحدة الدراسات في مركز راع أن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من دعم أو غضّ الطرف عن نشاط هذه الجماعات، لما يتيحه من ذريعة لاستئناف العمليات العسكرية مستقبلًا تحت عنوان “الاقتتال الداخلي”.
رابعًا: انعكاسات الظاهرة على اتفاق وقف إطلاق النار
يشير التحليل إلى أن استمرار وجود هذه الجماعات قد يؤدي إلى:
إعاقة أي عملية لنزع السلاح وعرقلة جهود إعادة الإعمار.
تعطيل آليات تنفيذ اتفاق شرم الشيخ للسلام بسبب غياب السلطة الموحدة.
تهديد مباشر للاستقرار الداخلي وزيادة فرص تفجّر الصراعات المحلية.
خامسًا: السيناريوهات المحتملة
1. مواجهات محدودة – السيناريو المرجّح:
عمليات أمنية تقوم بها حماس ضد العصابات دون انزلاق إلى اقتتال شامل.
2. تسوية عشائرية – السيناريو الضعيف:
وساطات محلية تقود إلى تهدئة مؤقتة دون معالجة جذرية.
3. تحالف ضد المقاومة – السيناريو الأخطر:
تحول بعض هذه الجماعات إلى أداة خارجية لإضعاف فصائل المقاومة وخلق انقسام دائم.
يرى مركز راع للدراسات الاستراتيجية أن غزة تقف أمام مفترق طرقٍ خطير: فإما نجاح القوى المحلية والدولية في احتواء هذه الظاهرة وتفكيكها، أو الانزلاق إلى نموذج شبيه بالحالة السودانية، حيث تتحول الميليشيات إلى أدوات حرب داخلية طويلة المدى.
ورغم التشابه في بعض العوامل، تبقى خصوصية البنية التنظيمية للمقاومة الفلسطينية، ووجود وساطات محلية فاعلة، عوامل قد تحول دون تكرار السيناريو السوداني بالكامل.
ومع ذلك، فإن استمرار الدعم الخارجي للعصابات المسلحة وتراجع السيطرة الأمنية، قد يجعل هذا الاحتمال أقرب مما يتصور الكثيرون.