في تحول لافت في معالم الاقتصاد السوري، تبدو العاصمة دمشق وريفها اليوم في موقع مغاير تمامًا عن الخريطة الاقتصادية التي عرفتها سوريا لسنوات طويلة، حيثُ كانت مدينة حلب تُعدّ "العاصمة الاقتصادية" بلا منازع. لكنّ الأرقام والاتجاهات الحديثة تشير إلى أن دمشق وريفها تستحوذان على الحصة الأكبر من الشركات الجديدة والاستثمارات الاقتصادية، في خطوة قد تغيّر وجه الاقتصاد السوري ويطرح سؤالاً جوهرياً: هل باتت دمشق البديل الحقيقي لحلب كمركز اقتصادي؟
الأرقام تتحدث
بحسب إحصائيات أعلنتها وزارة الاقتصاد والصناعة، فإن عدد الشركات المسجلة في سوريا حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر بلغت نحو 11 172 شركة، من بينها 8 693 شركة سجلت كسجل تجاري فردي، و1 044 كشركات أشخاص، و1 435 كشركات أموال. وفي تقرير تحليلي مستقل ورد أن أكثر من 80٪ من الشركات ذات المسؤولية المحدودة التي تأسّست في النصف الأول من العام كانت في دمشق وريفها، مقابل نسبة ضئيلة جدًا لصالح حلب.
الباحثون أشاروا إلى أن هذه المعطيات تكشف “تراجعاً مقلقاً” في دور حلب، إذ استحوذت دمشق وريفها على نحو 78.4٪ من شركات التأسيس الجديدة حتى نهاية آذار/مارس، بينما لم تحظ حلب سوى بنسبة حوالى 9.3٪. وهذا، لا يعني خروج حلب من المشهد تماماً، لكنه يؤشر إلى تفكّك موقعها السابق.
من التصنيع إلى التجارة والخدمات
قبل الحرب، كانت حلب تمثّل نحو 24٪ من الناتج المحلي السوري، وتضم ثلث الصناعات الوطنية. لكن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، وهجرة الخبرات، وفقدان حصتها في الأسواق الإقليمية بسبب انقطاع طرق التجارة، كلها عوامل حدّت من قدرتها على استعادة هذا الدور.
على العكس، يشير تحليل لواقع الشركات الجديدة إلى أن أكثر من 80٪ منها تعمل في مجالات التجارة، الاستيراد والتصدير، والخدمات، وليس التصنيع.
وهذا يعزز فرضية أن دمشق أصبحت تمثّل محوراً للنشاط الاقتصادي التجاري والخدمي، لا الصناعي بالدرجة التي كانت تتمتع بها حلب.
لماذا دمشق وليس حلب؟
تُعزى المفاضلة لصالح دمشق إلى عدة عوامل متداخلة: أولاً، المركزية الإدارية والسياسية تجعل العاصمة هي الأقرب لدوائر القرار، وبالتالي أكثر جذباً للاستثمارات التي تُبحث فيها الموافقة والتنفيذ بسرعة أكبر. ثانياً، الاستقرار النسبي في العاصمة ومحيطها مقارنة بمحافظات أخرى ساعد على استئناف النشاط التجاري. وثالثاً، البنية التحتية الخدمية (البنوك، الخدمات اللوجستية، الاتصالات) متوفّرة أكثر في دمشق، ما يجعلها قاعدةً أفضل لنشاط الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكّل غالبية التأسيس الجديد.
ويرى الباحثون أن حلب لا تزال محركاً هامّاً للاقتصاد الوطني، لكن طبيعة نشاطها المؤقت تتحول أكثر نحو التصنيع التقليدي والورش، بينما النشاط الاقتصادي السريع النمو اليوم هو في التجارة والخدمات — وهذا النشاط تميل دمشق لاستقطابه أكثر.
ماذا يعني هذا التحول؟
هذا التركز الكبير في دمشق على تأسيس الشركات والاستثمارات، رغم أنه قد يُظهِر دينامية اقتصادية، فإنه يحمل في طياته محفوفة بعدة مخاطر:
اختلال تنموي ومناطقياً: تركز نشاط الشركات والفرص في المنطقة المركزية (دمشق) يمكن أن يعمّق الفوارق بين العاصمة وبقية المحافظات، ويزيد من هجرة الأيدي العاملة نحو مركز واحد، ما يزيد الضغط على الخدمات والبنى التحتية في دمشق، ويضع المدن الأخرى في حالة صعوبة أكبر.
ضعف الإنتاج المحلي: اعتماد الاقتصاد بشكل أكبر على التجارة والخدمات بدل التصنيع يعني تراجعاً في القدرة على إنتاج السلع محلياً، ما يقلّص فرص التصدير ويزيد التبعية للاستيراد، ومعه هشاشة الاقتصاد أمام التغيرات الخارجية.
أزمة هوية اقتصادية: إذا غابت حلب كمركز صناعي وعن محيطها الإنتاجي، فإن الاقتصاد السوري قد يفقد أحد روافده التقليدية ويواجه صعوبة في إعادة بناء قطاع الصناعة بشكل متوازن.
هل بقاء حلب ممكن؟
رغم التراجع، هناك إشارات إلى أن حلب قد تعود — لكن ذلك يتطلب جهوداً ضخمة. يجب استثمار ما تبقّى من الخبرات، إصلاح البنية التحتية، تشريعات داعمة للاستثمار الصناعي، وحماية التصنيع المحلي من المنافسة غير العادلة من البضائع المستوردة. كما أن إعادة ربط حلب بأسواق التصدير التقليدية وإحياء العلاقات التجارية مع الدول المجاورة يمكن أن يعيد لها مكانتها.
ماذا بعد؟
إنّ تحول محور النشاط الاقتصادي من حلب إلى دمشق لا يعني بالضرورة أن حلب “خرجت” من اللعبة، إنما أنه تم تغيّر قواعد اللعبة. ومع أن هذا التغير يحمل إمكانات، إلا أنه يستدعي سياسات أو استراتيجية وطنية كي لا يتحوّل التركز في العاصمة إلى عبء على النمو المتوازن ولسدّ الفجوات التي قد تفتحها.
إذا لم تُعالج الفوارق الجغرافية والقطاعية، فإن سوريا قد تواجه في السنوات القادمة أنماطاً من النمو المُركّز الذي تغذّيه العاصمة، وهو ما قد يخلق هشاشة اقتصادية واجتماعية على مستوى الدولة بأسرها.