الفاشر.. آخر أنفاس دارفور بين نيران الدعم السريع وجوع المدنيين

2025.10.20 - 02:28
Facebook Share
طباعة

في مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، يختبئ المدنيون في سراديب ومخابئ حفروها بأيديهم، هرباً من قذائفٍ تتساقط كالمطر وطائراتٍ مسيّرة لا تفارق السماء.

ورغم أن الحرب المستمرة منذ عامين ونصف العام أنهكت السودان بأسره، فإنّ الفاشر باتت رمزاً لمأساة مركّبة: مدينة محاصرة بلا غذاء ولا دواء ولا مخرج.

 


المدينة التي تآكلت من الداخل

منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً، تخضع الفاشر لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، التي تحاول فرض سيطرتها على دارفور لتجعلها مركزاً لسلطة موازية في مواجهة الجيش السوداني.
تقول تقارير الأمم المتحدة إن أكثر من مليون شخص فرّوا من المدينة، فيما لا يزال نحو 250 ألف مدني محاصرين داخلها وسط أوضاع وصفتها منظمات الإغاثة بأنها "كارثية وغير قابلة للاستمرار".

بحسب شهادات حصلت عليها وكالة رويترز من سكان داخل المدينة، فإنّ الأهالي يعيشون في عتمةٍ كاملة بعد غروب الشمس تجنباً للطائرات المسيّرة، فيما يتحركون نهاراً في مجموعات صغيرة خشية الاستهداف.
أحد السكان قال: "أصبحنا نعدّ القصف مثل دقات الساعة، لا يتوقف، والسماء لا تهدأ".

 

في أواخر سبتمبر، تحوّلت مدرسة أبو طالب إلى مأساة جديدة حين سقط 18 قتيلاً في قصفٍ لمركز إيواء. وبعد أيام فقط، تعرّض مركز "دار الأرقم" الجامعي لهجوم مزدوج أسفر عن 57 قتيلاً، بينهم 17 طفلاً وثلاثة رضع.
يقول مدير المركز، هاشم بوش، إن "المشهد كان مروّعاً.. لم نجد أكفاناً كافية لدفن الأطفال".

في المقابل، لم تصدر أي بيانات من الجيش أو قوات الدعم السريع بشأن تلك الهجمات، بينما يؤكد السكان أن عمليات القصف والاستهداف للملاجئ تتواصل بشكل شبه يومي.

 


الجوع يلتهم ما تبقّى من المدينة

لم يعد الخطر في الفاشر مقتصراً على القصف، بل بات الجوع والمرض أكثر فتكاً.
تقدّر شبكة "لجنة مقاومة الفاشر" أن ما لا يقل عن 30 شخصاً يموتون يومياً بسبب العنف والمجاعة ونقص الدواء، فيما يدفن كثيرون موتاهم في مقابر جماعية أو تحت ركام منازلهم.
ووفق تقارير ميدانية من "غرفة طوارئ معسكر أبو شوك"، فإن جثثاً كثيرة متناثرة في الشوارع، ما يهدد بانتشار الأوبئة مع بداية موسم الأمطار.

يقول محمد، أحد المتطوعين في غرفة الطوارئ:
"لم يعد في المدينة ما يؤكل، حتى علف الحيوانات اختفى. الناس يقتاتون على أوراق الأشجار أو بقايا الحبوب القديمة".

 

ويرى مراقبون أن ما يحدث في الفاشر يمثّل انهياراً كاملاً للمنظومة الإنسانية في غرب السودان، بعدما فشلت المنظمات الدولية في إيصال المساعدات بسبب إغلاق الطرق، وتحوّل الممرات الإنسانية إلى أهدافٍ عسكرية للطرفين.

 

دارفور من خاصرة السودان إلى قلب الحرب

منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تحوّل إقليم دارفور إلى ساحة مركزية للصراع على السلطة.
فبينما يحتفظ الجيش بسيطرته على بورتسودان في الشرق، تُحاول قوات الدعم السريع ترسيخ نفوذها في الغرب لتؤسس "حكومة ظلّ" على أنقاض الدولة المركزية.

ويشير محللون إلى أن حصار الفاشر ليس عسكرياً فقط، بل سياسي أيضاً؛ إذ تسعى قوات الدعم السريع إلى حرمان الجيش من آخر رموزه في دارفور، بينما يستخدم الجيش مأساة المدينة لتصوير خصومه كقوة متمردة تستهدف المدنيين.
في المقابل، تبدو المجتمع الدولي عاجزاً عن التدخل، إذ لم تنجح حتى الآن أي من المبادرات الأممية أو الأفريقية في فرض هدنة إنسانية.


حرب دارفور.. من التهميش إلى الانفجار

تعود جذور الصراع في دارفور إلى بداية الألفية الجديدة، حين تفجّرت انتفاضات ضد الحكومة المركزية احتجاجاً على التهميش الاقتصادي والسياسي.
ومع ظهور مليشيا الجنجويد التي تحوّلت لاحقاً إلى "قوات الدعم السريع"، تصاعد العنف بين القبائل العربية والإفريقية، ما أدى إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين منذ عام 2003.

ورغم توقيع اتفاق جوبا للسلام عام 2020، فإن الانقسامات العرقية وبنية المليشيات المسلحة ظلّت حاضرة، لتنفجر مجدداً مع انقلاب 2021 واندلاع الحرب الشاملة في 2023.
اليوم، تمثّل الفاشر صورة مكثفة لمسار الصراع السوداني: مدينة انهارت فيها مؤسسات الدولة، وتحولت معاناة المدنيين إلى ورقة في صراع بلا نهاية.


صمت العالم ومدينة تتلاشى

بين أصوات المسيّرات وصمت المجتمع الدولي، تختنق الفاشر في عزلة مطبقة.
فبينما تحاول الأمم المتحدة الدعوة لتحقيقات وممرات إنسانية، تظلّ الاستجابة بطيئة، والمدينة تنزف كل يوم مزيداً من الأرواح.

الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل مرآة لوجه السودان المنكسر بين طموحات العسكر والجوع الذي لا يرحم أحداً.
وفي الوقت الذي تتبادل فيه الأطراف الاتهامات، تواصل المدينة سقوطها البطيء نحو المجهول.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 5