تتزايد المخاوف داخل الأوساط الإسرائيلية من الدور التركي المتنامي في غزة عقب اتفاق وقف النار الأخير، مع تحذيرات من باحثين في معهد "دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي من أن عودة أنقرة إلى المشهد الفلسطيني قد تتحول إلى "كابوس إستراتيجي" لتل أبيب، في ظل تمسك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخطابه التصادمي تجاه إسرائيل ودعمه الصريح لحركة حماس.
تركيا منبوذة تتحول إلى لاعب محوري
منذ اندلاع الحرب على غزة، عارضت إسرائيل بشدة أي دور تركي في ترتيبات ما بعد الحرب، خصوصاً بعد أن وصف أردوغان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "هتلر العصر" واتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.
لكنّ المشهد تبدّل في الأسابيع الأخيرة، إذ أصبحت أنقرة جزءاً أساسياً من المحادثات التي أفضت إلى اتفاق وقف إطلاق النار، تحت رعاية أميركية مباشرة.
ويرى الباحثان الإسرائيليان غاليا ليندنشتراوس ورامي دانيال أن "العودة التركية" إلى ملف غزة لم تأتِ نتيجة توافق إقليمي، بل بفعل دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يرى في أردوغان "زعيم الشرق الأوسط القادر على فرض الاستقرار".
تقول ليندنشتراوس إن الرهان الأميركي على أردوغان "يثير قلقاً كبيراً في إسرائيل"، لأن مشاركة تركيا في أي صيغة مستقبلية لغزة "تمثل تهديداً مزدوجاً: سياسياً لأنها خصم معلن لتل أبيب، وأمنياً لأنها تمتلك قوة عسكرية منظمة يمكن أن تتحول إلى عنصر احتكاك مباشر مع القوات الإسرائيلية".
أردوغان والفرصة التاريخية للعودة إلى غزة
بعد عزلة دامت أكثر من عقد منذ أزمة سفينة مافي مرمرة عام 2010، ترى أنقرة في تدخلها الحالي "فرصة تاريخية" لاستعادة نفوذها في المنطقة.
ويشير دانيال إلى أن أردوغان سعى طوال الحرب إلى تثبيت موقعه كوسيط لا يمكن تجاوزه، مستغلاً علاقاته مع واشنطن من جهة، وخطابه الداعم للمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.
ويضيف أن "تركيا استثمرت خطابها السياسي وخدماتها الإنسانية في غزة لتتحول من داعم معنوي إلى طرف فاعل"، محذراً من أن الرئيس التركي "لن يغيّر موقفه من حماس، بل سيحاول الحفاظ على شرعيتها السياسية داخل أي ترتيبات لاحقة"، وهو ما تعتبره إسرائيل عقبة أمام تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق.
كابوس إستراتيجي لتل أبيب
بحسب التقرير الإسرائيلي، فإن المؤسسة الأمنية في تل أبيب تنظر إلى الدور التركي بوصفه "كابوساً إستراتيجياً" قد يقيّد حرية عمل الجيش الإسرائيلي، خصوصاً إذا شملت ترتيبات ما بعد الحرب وجود قوات مراقبة تركية قرب وحدات إسرائيلية.
ويرى دانيال أن هذا الاحتمال "يفتح الباب أمام احتكاكات ميدانية يمكن أن تتحول إلى أزمات دبلوماسية أو حتى مواجهات محدودة"، مشيراً إلى تجربة إسرائيل مع قوات "اليونيفيل" في لبنان كمثال تحذيري.
كما تخشى تل أبيب من أن تدفع أنقرة نحو صيغة تسوية تمنح حماس دوراً سياسياً في إدارة غزة، في وقت تدفع فيه إسرائيل ومصر والإمارات نحو نزع سلاح الحركة وإقصائها عن الحكم.
جبهتان للنفوذ التركي: غزة وسوريا
القلق الإسرائيلي لا يقتصر على غزة. فبحسب ليندنشتراوس، فإن صعود الدور التركي في سوريا وتراجع النفوذ الإيراني النسبي هناك يجعلان أنقرة "اللاعب الإقليمي الصاعد" الذي قد يتقاطع مع المصالح الإسرائيلية في أكثر من ساحة.
وتوضح الباحثة أن تركيا توسّعت من اهتمامها التقليدي في شمال سوريا إلى مناطق أوسع، وباتت تنظر إلى إسرائيل بوصفها عائقاً محتملاً أمام طموحاتها الجديدة.
وقد اضطر الجيشان التركي والإسرائيلي إلى تفعيل خط ساخن لتفادي الحوادث الجوية في الأجواء السورية، ما يعكس هشاشة العلاقة الأمنية بين الطرفين رغم وجود مصالح متشابكة في بعض الملفات.
أنقرة بين واشنطن والشارع العربي
في المقابل، تشير تحليلات إسرائيلية إلى أن أنقرة تستخدم ملف غزة لإعادة ترميم صورتها في العالمين العربي والإسلامي، ولإثبات قدرتها أمام واشنطن على لعب دور "الزعيم المنضبط" الذي يوازن بين المصالح الأميركية والعربية.
غير أن تل أبيب ترى في هذه الإستراتيجية "وجهاً مزدوجاً"، إذ تواصل تركيا هجومها الإعلامي والسياسي ضد إسرائيل في الداخل، بينما تسعى في الوقت نفسه لتكريس نفسها شريكاً أساسياً في إعادة إعمار غزة وتثبيت وقف النار.
توازن هش ومعادلة مفتوحة
تدرك إسرائيل أن النفوذ التركي في غزة وسوريا يتجاوز البعد التكتيكي، ويمسّ جوهر توازن القوى في الإقليم.
ومع تصاعد الرهان الأميركي على أنقرة، تبدو تل أبيب أمام معادلة جديدة: إما قبول تركيا كشريك إجباري في مرحلة "اليوم التالي"، أو مواجهة نفوذها المتزايد في ظل تراجع الحلفاء التقليديين في المنطقة.
وفي كلتا الحالتين، يبقى حضور أردوغان في غزة ــ كما وصفه أحد المحللين الإسرائيليين ــ "كابوساً مؤجلاً ينتظر لحظة الانفجار".