تواجه عائلات المفقودين في سوريا واقعاً جديداً لا يختلف كثيراً في قسوته عن ماضٍ طويل من الانتظار: بعد الإطاحة بالنظام السابق في كانون الأول، انفتحت أمام الأهالي مساحات للحكي جمعياً، لكن الطريق نحو الحقيقة والعدالة ما يزال طويلاً ومفروشاً بعقبات تقنية وقضائية ولوجستية.
على مقربة من المقابر الجماعية التي تُكتشف تباعاً في مناطق خضعت سابقاً لسيطرة النظام، تجتمع نساء ورجال في ما صار يُعرف محلياً بـ«خيمة الحقيقة» ليحكوا قصص فقدان أحبائهم، ويطالبوا بتحديد مصائرهم ومحاكمة المسؤولين.
الوقائع التي يتعامل معها الأهالي والمنظمات الحقوقية مريرة: اكتشاف عشرات المقابر الجماعية، شهادات ناجين عن مجازر أو قوافل تعرضت للهجوم أثناء محاولات الخروج من مناطق محاصرة، ووثائق تعيد ربط قرارات سابقة بمسؤولين مؤثرين، الأرقام التي توثّقها منظمات حقوقية تشير إلى مئات الآلاف من حالات الاختفاء القسري والاعتقال خلال سنوات النزاع، ونسبة كبيرة تُحمّل مسؤوليتها لجهات الدولة السابقة.
في «خيمة الحقيقة» تتقاطع المعاناة مع الإرادة السياسية المتجددة؛ فإعلان قيادات جديدة أن قضية المفقودين أولوية وطنية قوبل بترحيب الأهالي، لكنه أيضاً استدعى ملاحظات عملية: اللجنة الوطنية للمفقودين ما تزال في طور التأسيس وتواجه نقص موارد جوهرية، أهمها مختبرات فحص الحمض النووي وأطر قانونية واضحة لاستعادة الرفات وربط بقايا الهياكل العظمية بهويات المفقودين. عملية الكشف عن المقابر وجمع الأدلة تتطلب فرقاً متخصّصة، تجهيزات مخبرية، وإدارةً لمنع تلوث الأدلة، ما يجعلها عملية طويلة ومعقّدة تقنياً.
المشهد يحمل بعداً قضائياً حاسماً، الرغبة الشعبية في المحاسبة اصطدمت برحيل أو اختفاء كثير من المتّهمين وكبار المسؤولين، مما يجعل آليات المثول أمام العدالة تحتاج إلى تنسيق دولي وإقليمي، ومواصلة توثيق الأدلة بطريقة تقبل أمام محاكم وطنية ودولية.
التعقيد القانوني يترافق مع تحدٍ نفسي واجتماعي، العائلات تطالب بحق الدفن بكرامة، وتحتاج إلى برامج دعم نفسي واجتماعي طويلة الأمد للتعامل مع الصدمة والحداد الممتد.
في ضوء هذه المعطيات، تبدو ثلاث أولويات واضحة: توسيع قدرات التوثيق والمختبرات للتعرّف على الرفات عبر فحوص الحمض النووي، إنشاء آليات قضائية شفافة تتكفل بجمع الأدلة وتأمين سبل المساءلة، وتقديم دعم شامل للعائلات عبر برامج نفسية واجتماعية وقانونية.
من دون هذه الركائز ستبقى «خيمة الحقيقة» مكاناً للتذكّر والحنين أكثر من كونها بوابة فعلية نحو الحقيقة والعدالة.
النقاش اليوم ليس حول إمكانية الوصول إلى الحقيقة فحسب، بل حول الإرادة والقدرة على تحويل مطالب الأهالي إلى مؤسسات مستقرة قادرة على إدارة ملف المفقودين على مدى سنوات، بما يضمن حق العائلات في المعرفة والدفن والمساءلة.