دمار يتجاوز الخيال.. كيف يمكن أن تولد غزة من جديد؟

دمار شامل يعيد غزة إلى ما قبل التاريخ

2025.10.16 - 03:42
Facebook Share
طباعة

بعد نحو عامين من الحرب التي اجتاحت قطاع غزة، تبدو مهمة إعادة الإعمار أكبر من أي تصور سابق. فبينما عاد آلاف الفلسطينيين إلى أحيائهم المدمّرة بعد وقف إطلاق النار، كان أغلبهم يدرك أن العودة ليست سوى وقوف على الأطلال.

تقديرات الأمم المتحدة تُشير إلى أن حجم الدمار الاقتصادي والعمراني في غزة تجاوز 70 مليار دولار، بينما تصف منظمات دولية المشهد بأنه «أسوأ من البدء من الصفر». فكما قال البروفيسور أندرياس كريغ من كلية كينغز كوليدج بلندن: «في غزة لا تبدأ من الرمال... بل من الأنقاض».

 

أنقاض تغمر المدينة وتخفي تحتها جثثاً وقنابل

تشير صور الأقمار الصناعية إلى وجود أكثر من 60 مليون طن من الأنقاض تنتظر الإزالة. وهي ليست مجرد بقايا أبنية، بل تحتوي على رفات بشرية وذخائر غير منفجرة، ما يجعلها قنبلة موقوتة داخل الأحياء.

فيليب بوفرات، المدير التنفيذي السابق لشركة المعدات البريطانية «JCB»، يرى أن أول خطوة في الإعمار هي تطهير المواقع من القنابل، ثم فرز وفصل المواد القابلة لإعادة الاستخدام.

«لن يُبنى القطاع بالشاحنات عبر الحدود، بل من ميناء جديد يجب إنشاؤه لاستقبال آلاف الحاويات»، كما قال.

 

المياه.. الحاجة الأكثر إلحاحاً

المياه النظيفة باتت السلعة الأغلى في غزة. فبحسب «اليونيسف»، تضرر أو دُمّر أكثر من 70% من مرافق المياه والصرف الصحي منذ أكتوبر 2023، ما أدى إلى تفشي أمراض الإسهال والكوليرا، خاصة بين الأطفال.

وفي صور الأقمار الاصطناعية، تظهر الأضرار الجسيمة في محطة الشيخ عجلين لمعالجة الصرف الصحي، وهي واحدة من ست محطات رئيسية أصيبت بالشلل الكامل.
ماهر نجار، نائب مدير مصلحة مياه بلديات الساحل، قال إن: «كل محطات التحلية تقريباً خرجت عن الخدمة، وإصلاح 20% منها فقط يحتاج إلى 50 مليون دولار، بينما تتجاوز الخسائر الإجمالية مليار دولار».

 

بيوت مدمّرة ومدينة بلا طرق

تقديرات «يونوسات» تشير إلى أن 283 ألف منزل وشقة دُمّرت أو تضررت بشكل كبير. وفي مدينة غزة وحدها، تصل نسبة الدمار إلى 92%. كما دُمّرت 90% من الطرق، مما جعل بعض الأحياء معزولة تماماً.

الباحثة شيلي كولبيرتسون من مؤسسة «راند» الأميركية، قدّرت أن إعادة بناء المساكن «قد تستغرق ثمانين عاماً» إذا تمت وفق آليات الإعمار البطيئة السابقة.
«لكن بخطط مدروسة يمكن تحويل المخيمات المؤقتة إلى أحياء دائمة قابلة للتطوير»، تقول كولبيرتسون.

 

الطاقة قطاع مشلول

قبل الحرب، كان قطاع الكهرباء في غزة هشّاً بطبيعته، يعتمد جزئياً على إسرائيل ومحطة توليد تعمل بالديزل. ومع اندلاع الحرب، انقطعت الكهرباء بالكامل تقريباً بعد تدمير البنية التحتية وتعطّل محطة التوليد.

تقرير مشترك للبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أشار إلى أن 80% من أصول توليد وتوزيع الكهرباء دُمّرت أو تعطّلت، بخسائر تجاوزت 494 مليون دولار.
شركات توزيع الكهرباء نفسها فقدت 70% من مبانيها ومعداتها.

الزراعة أرض مدمّرة ومجاعة معلنة

صوَر الأقمار الاصطناعية تُظهر اختفاء مساحات شاسعة من المزارع في شمال القطاع، خصوصاً في جباليا وبيت لاهيا.
تحليل جامعة ولاية كينت كشف أن 82% من المحاصيل السنوية و97% من أشجار الزيتون والحمضيات دُمّرت بالكامل.

هذا الانهيار الزراعي، مقترناً بحصار المساعدات، أدى إلى إعلان المجاعة في مدينة غزة في سبتمبر 2025.
بوفرات يؤكد أن «تطهير الأراضي من الألغام هو الخطوة الأولى لإنعاش الزراعة، لأنها مفتاح الأمن الغذائي الذاتي».

التعليم أجيال بلا مدارس

قبل الحرب، كان نصف سكان غزة دون سن الثامنة عشرة. ومع تدمير المدارس، تحوّلت العملية التعليمية إلى ذكرى.
وكالة «الأونروا» تقول إن 91.8% من مدارسها تحتاج إلى إعادة بناء كاملة، بعدما تحولت إلى ملاجئ ثم أهداف عسكرية.

الجامعات لم تنجُ هي الأخرى؛ فقد قُصفت جامعة الأزهر وجامعة الإسراء، وتحولت أراضيهما إلى مناطق عسكرية إسرائيلية.

«جيل كامل من الأطفال يواجه خطر الضياع المعرفي والنفسي»، كما يحذّر خبراء التربية في غزة.

 

الاقتصاد والبنية المؤسسية انهيار شامل

الاقتصاد الغزي الذي كان هشاً أساساً قبل الحرب تلاشى تماماً. أكثر من 80% من المؤسسات الخاصة توقفت عن العمل، والبنوك مغلقة أو شبه معطّلة، فيما تراجعت الإيرادات الحكومية بنسبة تفوق 95%.

تقدّر الأمم المتحدة أن إعادة إنعاش الاقتصاد الفلسطيني في غزة تتطلب ما لا يقل عن 30 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأولى، بشرط وجود بيئة آمنة واستقرار سياسي وإداري.

الإعمار بين السياسة والوصاية

رغم الحديث عن مؤتمرات إعمار متعددة في القاهرة والدوحة وواشنطن، لا تزال هوية الجهة التي ستقود عملية الإعمار محل جدل دولي.
الولايات المتحدة تدفع باتجاه إدارة أممية – عربية مشتركة، بينما تصرّ السلطة الفلسطينية على تولي الدور الرئيسي، في ظل تحفظات إسرائيلية على مشاركة حماس.

لكن المبعوث الأممي الخاص لعملية الإعمار، جاكو سيلييه، حذّر قائلاً: «إذا لم يُرفع الحصار وتُضمن حرية دخول المواد، فإن أي خطة إعمار ستبقى حبراً على ورق».

 

ما بعد الأنقاض.. معركة الذاكرة والبقاء

في النهاية، لا يتعلق إعمار غزة بإعادة بناء الحجر فقط، بل بإعادة ترميم الإنسان الفلسطيني نفسه، الذي عاش حرباً إبادة جماعية بكل المقاييس.
الدمار الذي أصاب المنازل يمكن ترميمه بالإسمنت، لكن إعادة الثقة بالحياة والعدالة تتطلب إرادة سياسية دولية غير مرهونة بالاصطفافات.

فغزة، كما قال أحد المهندسين العائدين إلى حي الرمال، «ليست مدينة تُبنى من جديد... بل قضية تُستعاد».
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 4