شهدت سوريا خلال الأسبوع الماضي موجة من حوادث القتل التي امتدت من الساحل إلى الداخل، مثيرةً مخاوف من عودة دوامة العنف ومجددةً الدعوات لتفعيل مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لضمان السلم الأهلي والاستقرار.
ففي ريف حماة الجنوبي، قُتل أربعة مدنيين خلال عودتهم من العمل، لتعلن الجهات الأمنية لاحقًا القبض على المنفذين. وفي مساء اليوم نفسه، قُتل ثلاثة أشقاء في قرية حيالين بريف حماة الغربي على يد مسلحين مجهولين. أما في ريف طرطوس، فقد اغتيل الطبيب والمرشح البرلماني حيدر شاهين داخل منزله برصاص شخص ملثم. ولم تمضِ ساعات حتى شهد ريف حمص الغربي حادثة جديدة راح ضحيتها شخصان وأصيب ثالث في قرية عناز بوادي النصارى.
تكرار هذه الجرائم خلال أيام معدودة أعاد إلى الواجهة الحديث عن ضرورة تعزيز الأمن، وضبط السلاح المنتشر، وتفعيل مسار العدالة الانتقالية بما يحقق الإنصاف للضحايا ويمنع تكرار الانتهاكات.
تحديات الأمن والحوار المجتمعي
يرى مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني أن تعدد الحوادث وتنوع مناطقها يجعل من الصعب تحديد خلفياتها بدقة، سواء كانت طائفية أم انتقامية، لكنه يشدد على أن ما يجري يفرض على الحكومة تعزيز قدراتها الأمنية وتدريب عناصرها بشكل احترافي للحد من الانتهاكات.
عبد الغني دعا إلى فتح حوار مجتمعي واسع تشارك فيه مؤسسات المجتمع المدني، معتبرًا أن أي جهود حكومية بمعزل عن هذه المؤسسات لن تحقق نتائج ملموسة. وأكد أن سوريا تحتاج إلى توسيع أعمال لجنة السلم الأهلي، خصوصًا في المناطق التي لم تشهد مواجهات واسعة، لأن ترميم الثقة فيها أسهل من مناطق عانت انقسامات حادة.
الدعوة إلى لجنة جديدة للسلم الأهلي
وبحسب عبد الغني، فإن انتهاء ولاية اللجنة السابقة التي شُكّلت مطلع العام الجاري، يفرض تأسيس لجنة وطنية جديدة أكثر استقلالية، تضم شخصيات من المجتمع المدني وخبراء حقوقيين، دون أن تكون تابعة للحكومة بشكل مباشر.
اللجنة السابقة كانت قد أوكلت إليها مهام تعزيز الاستقرار في الساحل السوري، لكنها واجهت انتقادات حقوقية تتعلق بتجاوز الصلاحيات القضائية، خصوصًا بعد إصدار قرارات بالعفو والإفراج عن شخصيات متورطة بانتهاكات دون أسس قانونية واضحة، ما اعتبره مراقبون تقويضًا لثقة المجتمع بمسار العدالة.
العدالة الانتقالية.. ضرورة لا خيار
الباحث في “مركز الحوار السوري” نورس العبد الله يرى أن غياب إجراءات حقيقية لمحاسبة المتورطين أو تعويض الضحايا أرسل “رسالة سلبية” للسوريين، وأضعف الإيمان بإمكانية تحقيق العدالة.
ويشرح العبد الله أن العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات، بل هي منظومة شاملة تهدف إلى كشف الحقيقة، ومساءلة الجناة، وجبر الضرر، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. ويؤكد أن نجاح هذا المسار يرتبط بثقة المجتمع بأن الدولة جادة في معالجة إرث العنف، مشيرًا إلى أن “المصالحة الحقيقية لا تكون بوقف القتال فقط، بل بشفاء الذاكرة الجماعية ومعالجة الأسباب العميقة للصراع”.
ويحذر الباحث من بقاء المتورطين في جرائم سابقة داخل مجتمعاتهم دون مساءلة، معتبرًا أن ذلك يفاقم مشاعر الانتقام ويغذي دوائر الثأر.
تسويات مثيرة للجدل
مصادر محلية من ريف حمص الغربي أشارت إلى أن بعض الضحايا في الحوادث الأخيرة كانوا ممن أجروا “تسويات” مع السلطات رغم تورطهم في انتهاكات سابقة، ما أثار غضب الأهالي ودفع البعض إلى ردود فعل خارج القانون.
ويرى ناشطون قانونيون أن هذه التسويات غير الشفافة تهدد الاستقرار أكثر مما تخدمه، لأنها تُظهر غياب معايير العدالة وتكرّس ثقافة الإفلات من العقاب. وطالبوا الحكومة بتفعيل مسار العدالة الانتقالية بشكل عاجل، وضبط السلاح، وإطلاق عملية مصالحة وطنية قائمة على جبر الضرر وإنصاف الضحايا.
هيئة العدالة الانتقالية أمام اختبار صعب
تعمل “هيئة العدالة الانتقالية” التي شُكّلت بمرسوم رسمي منتصف أيار الماضي، على كشف الحقيقة حول الانتهاكات التي وقعت في البلاد، ومحاسبة المسؤولين عنها، بالتعاون مع الجهات القضائية والحقوقية. كما تهدف الهيئة إلى جبر الضرر وتعزيز المصالحة الوطنية، وضمان عدم تكرار الجرائم.
ويرى مراقبون أن نجاح الهيئة في مهمتها سيحدد مدى جدية الحكومة الانتقالية في طي صفحة الماضي بطريقة تحترم حقوق الضحايا وتعيد الثقة بالمؤسسات.
من جهتها، حذرت منظمة حقوقية دولية مؤخرًا من أن تجاهل المحاسبة الجادة على الجرائم المرتكبة، سواء في عهد النظام السابق أو بعده، سيُبقي سوريا أسيرة دورات متكررة من الإفلات من العقاب والعنف الطائفي. ودعت إلى جعل أي دعم دولي للحكومة مشروطًا بإصلاحات حقيقية تضع العدالة وحقوق الإنسان في صميم العملية الانتقالية.
نحو مستقبل أكثر استقرارًا
في ظل هشاشة الوضع الأمني وتفاقم الانقسامات، تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة لا غنى عنها لبناء سلام دائم. إذ لا يمكن للسوريين تجاوز ماضيهم المؤلم دون كشف الحقيقة، ومحاسبة الجناة، وضمان حق الضحايا في العدالة والكرامة.
فما بين أصوات تطالب بالعفو والمصالحة، وأخرى تصرّ على المحاسبة والإنصاف، يبقى التحدي الأكبر أمام السوريين هو إيجاد توازن يحقق الأمن دون أن يدفن العدالة.