يسعى مرفأ بيروت اليوم إلى تثبيت موقعه مجدداً على خارطة المرافئ العالمية، في مشهد يعكس محاولات جادة لإعادة ترميم الثقة بمرفق وطني كان يوماً شريان لبنان الاقتصادي الأساسي.
ومع تسجيل رقم قياسي جديد في مناولة الحاويات، يعود المرفأ إلى دائرة الضوء كمؤشر على بدء مرحلة تعافٍ تشغيلية، لكنها لا تزال تصطدم بجدار الإصلاح الإداري الغائب والتهريب المتفشي والبيروقراطية التي تعرقل التحديث المنشود.
إنجاز تشغيلي يعيد الثقة:
أعلن رئيس مجلس الإدارة المدير العام لمرفأ بيروت عمر عيتاني عن تحقيق محطة الحاويات رقماً قياسياً في الخامس من تشرين الأول 2025، بمناولة عشرة آلاف ومئة وست وستين حاوية نمطية على سفينة واحدة هي CMA CGM ARGON، وهو الرقم الأعلى في تاريخ المرفأ منذ عام 2004. هذا التطور أعاد الثقة بقدرة المرفأ على التعافي واستعادة نشاطه التجاري، لكنه في الوقت نفسه كشف الحاجة الملحة إلى إصلاحات هيكلية تضمن استدامة هذا التقدم وتحوله إلى نهج ثابت وليس إنجازاً ظرفياً.
غياب الإصلاح الجمركي:
ورغم النمو التشغيلي، لا يزال غياب مدير عام للجمارك أحد أبرز العوائق أمام الإصلاح الحقيقي، فالمعابر الجمركية تشكّل العصب المالي للدولة اللبنانية، وأي تأخير في ضبطها يعني استمرار الهدر وتراجع العائدات العامة، ويخشى كثيرون أن يؤدي استمرار الفراغ الإداري إلى إضعاف الرقابة على حركة البضائع وإبقاء المرفأ عرضة لشبكات التهريب التي تستنزف موارده.
الرقابة الأمنية واللوجستية:
في حديثه لـ"المركزية"، أوضح عيتاني أن إدارة المرفأ لا تملك صلاحية الكشف على البضائع أو تحديد طبيعتها، بل يقتصر دورها على التنسيق اللوجستي وتسهيل المعاملات، فيما تتولى إدارة الجمارك والجيش اللبناني والأجهزة الأمنية مهمة الرقابة والتدقيق. وأشار إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تعزيزاً ملحوظاً لهذه الإجراءات خصوصاً من قبل الجيش، مؤكداً أن العمل جارٍ على استقدام ماسحتين ضوئيتين جديدتين تم شراؤهما بالتعاون مع شركة CMA CGM، ومن المتوقع وصولهما نهاية الشهر الجاري لتعزيز آليات التفتيش وضبط المخالفات.
مشاريع تطويرية وطموح مستقبلي:
يتطلع المرفأ إلى تنفيذ مخطط توجيهي شامل يهدف إلى إعادة تأهيل بنيته البحرية والبرية وفق المعايير الدولية، وتنظيم حركة السير داخل المرفأ وعلى مداخله، وفتح مدخل رئيسي جديد يحمل الرقم تسعة، إضافة إلى ترميم الأرصفة وتعميق الأحواض البحرية وتنظيفها كما تسعى الإدارة إلى إعادة توزيع باحات التحميل وتخصيص منطقة لنقل المركبات، وإنشاء محطة ركاب ومشاريع لإنتاج الطاقة الشمسية لتأمين التشغيل المستدام. ويكشف عيتاني أن الإدارة أنجزت دفاتر الشروط الخاصة بالمرحلة التنفيذية بالتعاون مع خبراء فرنسيين وبدعم من الحكومة الفرنسية، استعداداً لطرحها في القريب العاجل.
سيناريوهات محتملة للمستقبل:
تبدو صورة المستقبل مفتوحة على أكثر من احتمال. السيناريو الأول يقوم على تحقيق نهوض شامل يجمع بين الإصلاح الإداري والتحديث التقني، ما يعيد مرفأ بيروت إلى موقعه كمركز لوجستي محوري في شرق المتوسط. أما السيناريو الثاني فيتمثل في تحسن تدريجي محدود يقتصر على الجانب التشغيلي دون أن يطال بنية الإدارة، وهو ما يحافظ على نشاط المرفأ من دون تطوير قدرته التنافسية. أما الثالث فيرتبط بتعطّل المشاريع واستمرار الفوضى الإدارية، ما قد يؤدي إلى تراجع الثقة الدولية وخسارة خطوط الملاحة لحساب مرافئ المنطقة المجاورة.
بين الإنجاز التشغيلي والجمود الإداري، يقف مرفأ بيروت أمام مفترق طرق حاسم. فإما أن يتحول الرقم القياسي الأخير إلى بداية مسار إصلاحي حقيقي يعيد لهذا المرفق دوره الاقتصادي والاستراتيجي، وإما أن يبقى إنجازاً معزولاً في بحر من التحديات البنيوية. النجاح هنا لا يُقاس بعدد الحاويات فقط، بل بقدرة الدولة على حماية هذا المرفق من الهدر والتهريب واستثماره كمورد سيادي يعيد الأمل إلى اقتصاد يرزح تحت ضغط الانهيار.