الأرض السورية: موتٌ يختبئ بين الحقول

2025.10.08 - 05:50
Facebook Share
طباعة

رغم انتهاء القتال الرسمي وسقوط النظام في ديسمبر 2024، لم تهدأ المخاطر على المدنيين في سوريا.
فالأرض نفسها أصبحت فخًا قاتلًا، حيث تختبئ تحتها ألغام وذخائر متفجرة تنتظر خطوة خاطئة. الموت لم يختفِ، بل تغيّر شكله وأسلوبه، ليصبح جزءًا من الحياة اليومية: في الحقول، الأزقة، وحتى أمام أبواب المنازل.

في الأشهر التسعة الأولى من 2025، وثّقت منظمات محلية ودولية أكثر من 650 حادثة متصلة بمخلفات الحرب، أسفرت عن مقتل أكثر من 570 شخصًا وإصابة نحو 850 آخرين، نصفهم تقريبًا من الأطفال، ما يجعل هذا الصمت القاتل أخطر من أي قصف سابق.

حرب تحت الأقدام:

الأرض السورية لم تتنفس، فمخلفات الحرب لا تزال تزرع الموت بصمت، زرع النظام السابق ألغامًا واسعة، فيما ترك تنظيم "داعش" إرثًا عشوائيًا من العبوات اليدوية والمنازل المفخخة. ولم تُفتح الأرشيفات العسكرية التي تحتوي على خرائط الزرع، فظلّت الأراضي مجهولة المعالم، والضحايا المدنيون هم من يدفعون الثمن.

الأطفال الذين كانوا يركضون في الأزقة، والفلاحون الذين اعتادوا على حقولهم، باتوا يراقبون خطواتهم، وكرة ساقطة في بستان قد تعني الموت.

الأثر الجسدي والنفسي:

الأطباء في المشافي الميدانية يؤكدون أن أكثر من ثلثي المصابين يحتاجون جراحات معقدة أو أطراف صناعية، فيما ينتهي ربع الحالات بالبتر. معظم الضحايا من النساء والأطفال، ما يضاعف المأساة، حيث تتعرض أجساد صغيرة للقطع والتهتك، بينما يظل الخوف والصدمة راسخين في النفوس.

الخسائر تمتد لتشمل الأراضي الزراعية، حيث آلاف الهكتارات باتت مهجورة، والخدمات الأساسية متوقفة، إذ يخشى الفنيون الدخول لإصلاح الأعطال.

فرق الإنقاذ في دائرة الخطر:

فرق الهندسة العسكرية والدفاع المدني لا تنجو من الموت. خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، فقدت الفرق أكثر من 30 جنديًا و16 آلية، بالإضافة إلى متطوعين قضوا أثناء محاولتهم إنقاذ المدنيين. الأدوات المتاحة بدائية، وأجهزة الكشف المتقدمة محدودة بسبب القيود الدولية، ما يزيد صعوبة المهمة ويجعل الأرض مليئة بالمخاطر.

وعود الحكومة بلا أثر:

في يونيو 2025، أعلنت الحكومة الانتقالية إنشاء “المركز الوطني للأعمال المتعلقة بالألغام” مع وعود بخطة وطنية شاملة، لكن على الأرض لم يُنشأ أي قاعدة بيانات أو خرائط توضح المناطق المطهرة، ولم تُحدد معايير وطنية للمسح والإزالة.

هذا الفراغ أوجد سوقًا خاصة بالتمويل والمعدات، بينما يبقى الضحايا أرقامًا في تقارير المنظمات الدولية. التمويل الفعلي لم يتجاوز 13% من المطلوب لعام 2024، مقارنة بأزمات أخرى مثل أوكرانيا، ما يعكس تفاوت الدعم الدولي حسب الموقع الجغرافي والسياسي للنزاع.

حلول محلية بدائية:

الأهالي لم ينتظروا الحكومة. في إدلب يضع الشبان شرائط بلاستيكية حمراء حول الحقول، وفي حماة يُطلق المؤذنون التحذيرات عبر مكبرات الصوت، بينما تتنادى المجتمعات المحلية في دير الزور لتنبيه الأطفال. هذه المحاولات بسيطة، لكنها تعكس شعورًا بالخذلان: المجتمع وحده أصبح خط الدفاع الأخير أمام الموت الصامت.

الطريق إلى خطة فعالة:

خبراء إزالة الألغام يؤكدون أن أي خطة جادة تحتاج إلى:

مسح وطني شفاف للأراضي الملوثة

خط بلاغ موحد للإبلاغ عن الألغام

دمج التوعية في المدارس

دعم عاجل للضحايا وربطهم بمراكز العلاج والأطراف الصناعية

تمويل دولي طويل الأمد، وإدخال معدات حديثة، وتدريب فرق محلية


بدون هذه الخطوات، ستظل الأرض السورية مليئة بالمخاطر، والضحايا يسقطون فرادى في صمت قاتل.

الأرض السورية لم تخرج بعد من الحرب، بل انتقلت إلى حرب أخرى صامتة، يختبئ فيها الموت تحت التراب. المدنيون يسيرون فوقها بحذر دائم، والفارق الوحيد أن هذه الحرب بلا صور صارخة أو صرخات جماعية، لكنها لا تقل فتكًا عن أي مواجهة سابقة.

حقول تنتظر من يفلحها، بيوت تنتظر من يعمّرها، وألغام تنتظر من يزيلها. وما لم تتحول الوعود إلى أفعال، سيظل السوريون يمشون على حافة موت لا ينتهي، يعيشون حياتهم تحت ظل تهديد صامت مستمر. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 4