على أرض قرية الشهداء.. قصة المعركة التي غيّرت مسار حرب أكتوبر 1973

مئة جندي مصري يوقفون زحف جيش إسرائيلي كامل نحو السويس

2025.10.08 - 04:39
Facebook Share
طباعة

في فجر السابع من أكتوبر عام 1973، وعلى الرمال القريبة من مضيق رمانة بشمال سيناء، دوّى صدى واحدة من أشرس المعارك التي خاضتها قوات الصاعقة المصرية في حرب أكتوبر المجيدة.
كانت المهمة مستحيلة: منع الدبابات الإسرائيلية من التقدم نحو قناة السويس قبل استكمال الكباري وعبور الدبابات المصرية شرقًا.

لكنها تحولت إلى ملحمة بطولية خالدة، سُطّرت بالدم والنار، واحتُضنت أرضها اليوم في قرية تُعرف باسم قرية الشهداء.

 

خطة مستحيلة بقيادة شاب جسور

كان الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة آنذاك، يدرك خطورة أن تصل دبابات العدو إلى القناة مبكرًا.
لذلك وضع خطته على أساس تكليف رجال الكوماندوز المصريين بمهمة فدائية: إغلاق المحور الساحلي الموازي للبحر الأبيض المتوسط عند مضيق رمانة لمدة ست ساعات — فقط ست ساعات — حتى تكتمل عملية العبور شرقًا.

وفي مساء السادس من أكتوبر، أقلعت ست طائرات هليكوبتر من قاعدة إنشاص تحمل مائة مقاتل من رجال الصاعقة بقيادة النقيب حمدي شلبي، يصحبهم أربعة فدائيين من أبناء سيناء كأدلاء، بينهم المجاهد سليمان رشيد سعودي.
كانت الرحلة، كما وصفها القادة فيما بعد، «رحلة بلا عودة»… محطتان فقط: الإقلاع من إنشاص، والهبوط في رمانة.

 


التمركز والكمائن: استعداد للمستحيل

وصلت القوة المصرية إلى موقعها في رمانة عند منتصف الليل، مزودة بفصيلة صواريخ موجهة مضادة للدبابات، وفصيلة صواريخ «سام–7» المحمولة على الكتف.
زرع الأبطال الألغام على الطريق الساحلي القنطرة–العريش، واتخذوا مواقع كمائن محكمة تسيطر على الطريق بعمق كيلومترين كاملين.
خلال الليل، أنجزت السرية استعداداتها الهندسية في صمت، تنتظر شروق الشمس لتبدأ المعركة الأولى.

 


الالتحام الأول: النار تشتعل في دبابات العدو

في السادسة صباحًا، ظهرت الدبابات الإسرائيلية في الأفق.
انفجرت أولى قذائف المصريين، وتحوّل الطريق إلى جحيم من الدخان والنار.
خلال ساعات قليلة، دُمّرت 18 دبابة إسرائيلية، وعربتان مدرعتان، وأربع شاحنات، وأتوبيس محمّل بالجنود.
تراجع العدو تحت وابل النيران المصرية، ثم لجأ إلى قصف جوي ومدفعي مكثف اعتقادًا منه أن المقاومة انتهت.

لكن ما إن تقدّمت دباباته مجددًا عند الظهر حتى اصطدمت بكمين آخر للأبطال بقيادة النقيب حمدي شلبي.
المعركة الثانية كانت أشد ضراوة، وانتهت بانسحاب العدو مرة أخرى، بعد أن مُني بخسائر فادحة.

 


الذخيرة تنفد والبطولة تتوهج

عند العصر، استأنف العدو قصفه الجوي والمدفعي حتى الرابعة مساءً، تمهيدًا لهجوم ثالث.
هذه المرة أنزل الإسرائيليون قوة مظلات من مائة فرد لاجتياح الموقع.
لكن رجال الصاعقة المصريين واجهوهم بالسلاح الأبيض والخناجر بعد نفاد الذخيرة، في مشهدٍ يختزل معنى الفداء.

أصيب البطل النقيب علي نجم برصاصة، فاندفع نحو دبابة إسرائيلية، وصعد فوقها وفجّر نفسه فيها.
ورآه الجندي عبد الحليم مهني، فكرّر ما فعله قائده دون تردد.
تحولت رمانة إلى ميدان استشهاد جماعي، حيث لاحق الجنود المصريون الدبابات الإسرائيلية بأجسادهم، يفجرونها واحدًا تلو الآخر، حتى هربت الدبابات من أمام البشر.

 


26 ساعة من الإعجاز العسكري

بعد أكثر من يوم كامل من القتال، حاول اللواء المدرع 109 الإسرائيلي بقيادة «عساف ياجوري» الالتفاف على الموقع.
لكن النقيب حمدي شلبي، ومعه 15 مقاتلًا فقط من أصل 100، نجحوا في إحباط المحاولة، مستعينين بأبناء سيناء الذين عرفوا دروب الصحراء وسهل الطينة الوعر.

انسحب الأبطال سيرًا على الأقدام لمسافة 25 كيلومترًا وسط مستنقعات الملح، بعدما أغلقوا المحور الساحلي 26 ساعة كاملة بدلًا من 6 ساعات فقط، وهو ما سمح للقوات المصرية بعبور القناة في أمان.

في مذكراته، كتب الجنرال الإسرائيلي أبراهام أدان معترفًا:

> «لقد قاتل رجال الكوماندوز المصريون على المحور الساحلي بكل بسالة، وكأنهم أقسموا على أن يدفعوا أرواحهم ثمنًا لمنعنا من الوصول إلى قناة السويس.»

 

 

قرية الشهداء: ذاكرة حية للنصر

اليوم، تقف قرية الشهداء على أرض رمانة، شاهدة على تضحيات رجالها.
يقول سليمان العماري، أحد أبناء القرية:

> «أصرّ والدي رحمه الله أن تُسمى قريتنا قرية الشهداء، عرفانًا بما قدّمه الأبطال الذين حموا عبور النصر بدمائهم.»

 

وفي ذكرى السادس من أكتوبر عام 2020، تم إحياء أسماء وصور هؤلاء الأبطال، وعلى رأسهم الشهيد علي نجم، وقائد السرية النقيب أحمد شلبي الذي أصبح لاحقًا عقيدًا في القوات المسلحة.

 


معركة كتبها التاريخ بمداد من دماء

لم تكن «رمانة» مجرد معركة، بل رمزًا للفداء المطلق.
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فغدت بطولتهم درسًا خالدًا في معنى الانتماء والعزيمة.
على تلك الأرض التي تشهد اليوم حياةً جديدة في قرية تحمل اسم «الشهداء»، سُطّرت صفحة من أنبل صفحات حرب أكتوبر، حيث انتصرت الإرادة على الحديد، والروح على الدبابة.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 6