في ذكرى السابع من أكتوبر، يبرز اسم يحيى السنوار كأيقونة المقاومة الفلسطينية، القائد الذي صاغ عملية طوفان الأقصى، العملية التي قلبت موازين القوة في المنطقة.
السنوار ليس مجرد قائد ميداني، بل رمز للتخطيط الاستراتيجي والمقاومة الذكية، قائد يجمع بين السياسة والميدان، ويصنع من غزة قلعة صامدة تواجه الاحتلال رغم كل الضغوط العسكرية والسياسية، إرادته وتصميمه يجسدون أن غزة ليست قطاعًا محاصرًا، بل قلب نابض للمقاومة، وصوت يتردد في السياسة الإقليمية والدولية.
ولد يحيى السنوار عام 1962 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، في بيئة فلسطينية محاصرة، لكنها مشحونة بالوعي الوطني وروح المقاومة.
منذ طفولته، شهد السنوار حياة المخيم القاسية، حيث كانت ظروف الحصار والفقر تشكل جزءًا من واقع يومي، لكنها في الوقت نفسه أرسلت رسالة وطنية مبكرة عن قيمة الأرض والهوية الفلسطينية.
تلقى تعليمه في مدارس القطاع، حيث أظهر منذ الصغر شغفًا بالعلم والقراءة، خصوصًا في مجالات الفكر الإسلامي والسياسة، ما ساهم في بناء خلفية فكرية قوية توجهت لاحقًا نحو مقاومة الاحتلال. كان اهتمامه بالثقافة السياسية والفكر المقاوم جزءًا من تكوينه الشخصي، وغرس بدايات فهمه لصراع الأرض والهوية.
مع تقدمه في السن، انخرط السنوار في الحركة الطلابية والأنشطة الوطنية، حيث بدأ في ممارسة النشاط السياسي والاجتماعي ضمن صفوف الشباب الفلسطيني، وهو ما أعدّه تدريجيًا ليصبح قائدًا يتمتع بالوعي الاستراتيجي والقدرة على القيادة. هذه التجارب المبكرة مهّدت له الطريق للانضمام لاحقًا إلى حركة حماس، التي أصبحت منصة انطلاقه السياسي والميداني، وبيئة صقلته ليصبح أحد أبرز قادتها في غزة.
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تعرض يحيى السنوار لعدة اعتقالات من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث قضى فترات طويلة في السجون تحت ظروف قاسية. لم تكن هذه التجربة مجرد فترة حرمان من الحرية، بل كانت مرحلة حاسمة في صقل شخصيته القيادية وتعزيز صموده أمام ضغوط الاحتلال.
أثناء اعتقاله، اكتسب السنوار خبرة في قراءة المشهد السياسي والعسكري، وفهم آليات الصراع مع إسرائيل على المستويين الميداني والدبلوماسي، ما جعله قائدًا قادرًا على التعامل مع التعقيدات الداخلية والخارجية للمقاومة.
في عام 2011، أصبح السنوار واحدًا من أبرز المستفيدين من صفقة تبادل الأسرى التي أفرجت عن عدد من الأسرى الفلسطينيين مقابل الجنود الإسرائيليين المحتجزين. هذه الصفقة لم تمنحه الحرية فحسب، بل منحته مكانة سياسية رفيعة داخل حركة حماس، وجعلته شخصية قيادية مؤثرة في القرارات الاستراتيجية داخل القطاع.
تجربة الاعتقال وصفقة الإفراج شكلت السنوار كقائد يجمع بين الصمود والمفاوضات السياسية، وهو ما انعكس لاحقًا في دوره القيادي أثناء العمليات الكبرى، بما في ذلك طوفان الأقصى.
لقد أظهرت هذه المرحلة أن القيادة الفلسطينية ليست مجرد منصب، بل قدرة على مواجهة التحديات بالاستراتيجية والصبر والحكمة، وأنه يمكن للقيادي أن يتحول من أسير إلى رمز وطني مؤثر على الميدان والسياسة على حد سواء.
بعد الإفراج عنه ضمن صفقة تبادل الأسرى عام 2011، بدأ يحيى السنوار رحلة صعوده في صفوف حركة حماس، حيث تدرج بسرعة في المناصب القيادية حتى أصبح رئيس المكتب السياسي في قطاع غزة. هذه المكانة لم تمنحه فقط لقبًا رسميًا، بل أتاح له مسؤوليات كبيرة تشمل التخطيط العسكري والسياسي وإدارة الملفات الحساسة للمقاومة.
في منصبه، عمل السنوار على تعزيز الهيكلة التنظيمية للمقاومة الفلسطينية، مطورًا أساليب إدارة العمليات الميدانية، وموفرًا التدريب والتوجيه للكوادر العسكرية لضمان فعالية الردع ضد الاحتلال الإسرائيلي. كما ساهم في إدخال تكتيكات مبتكرة وحديثة في العمليات العسكرية، مدمجًا بين التخطيط الاستراتيجي والمعلومات الاستخباراتية، لضمان أعلى درجات النجاح في مواجهة إسرائيل.
لقد كان السنوار المهندس وراء العمليات الكبرى التي نفذتها حماس خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. هذه العملية لم تكن مجرد هجوم أو اقتحامات محدودة، بل خطة متكاملة أظهرت قدرة المقاومة على التخطيط والتنفيذ بدقة عالية رغم الفارق العسكري الكبير مع إسرائيل.
أظهرت هذه الإنجازات أن قيادة السنوار لم تقتصر على الإدارة السياسية، بل امتدت لتشمل إعادة تعريف المقاومة في غزة كقوة استراتيجية متكاملة، قادرة على الصمود والتأثير في الميدان والسياسة الإقليمية والدولية.
مهندس طوفان الأقصى
في الساعات الأولى من 7 أكتوبر 2023، أدار يحيى السنوار واحدة من أكثر العمليات العسكرية الدقة والتخطيط المتقن في تاريخ المقاومة الفلسطينية، والتي أُطلق عليها اسم طوفان الأقصى، تحت قيادته، نفذت حماس خطة هجومية شاملة، على المدن والبلدات الإسرائيلية الحدودية والداخلية، مستهدفة المواقع الحيوية والعسكرية، لم تكن مجرد هجمات عشوائية، بل جاءت وفق خطة استراتيجية دقيقة تهدف إلى شل قدرة الجيش الإسرائيلي على الاستجابة بشكل فعّال.
كما أشرف السنوار على اقتحامات برية دقيقة استهدفت نقاط ضعف الجيش الإسرائيلي، معززة بالتنسيق بين العمليات البرية والصاروخية لضمان أقصى تأثير على الأرض، هذا التنسيق المتكامل أظهر قدرة المقاومة على إدارة عمليات معقدة في الوقت نفسه، ومهارة عالية في استغلال الفارق المعلوماتي والتكتيكي لصالحها.
تأكيدًا على أهمية العملية، أثبتت طوفان الأقصى أن غزة ليست مجرد قطاع محاصر، بل قوة استراتيجية قادرة على فرض إرادتها على الأرض، وإعادة تشكيل موازين القوى في السياسة الإقليمية والدولية، في اليوم الأول فقط، أظهرت الخطة أن المقاومة الفلسطينية تحت قيادة السنوار تمتلك رؤية واضحة، قدرة على التخطيط، وجرأة على التنفيذ، حتى في مواجهة جيش يمتلك تفوقًا تكنولوجيًا هائلًا.
في منتصف سبتمبر 2024، وأثناء قيادته لعملية ميدانية ضد أهداف استراتيجية للجيش الإسرائيلي، تعرض يحيى السنوار لهجوم إسرائيلي مباشر أسفر عن استشهاده. لم تكن هذه اللحظة مجرد نهاية لمسيرة قائد، بل كانت استعراضًا حقيقيًا للشجاعة والمقاومة الفلسطينية في أسمى صورها.
المشهد الأخير للسنوار كان استثنائيًا؛ فقد كان يقود بنفسه العمليات على الأرض، يقاتل غير مدبر، متحديًا الموت حتى اللحظة الأخيرة. هذا السلوك لم يكن مجرد عمل عسكري، بل رمزًا لإصرار القيادة الفلسطينية على الصمود والمواجهة، حتى في أصعب الظروف.
ردود الفعل الفلسطينية كانت فورية وعميقة، اعتبرت المقاومة والشعب الفلسطيني أن السنوار أصبح رمزًا خالدًا للشجاعة والإرادة الثابتة في مواجهة الاحتلال. لحظة استشهاده أشعلت شرارة معنوية جديدة للمقاومة، وعززت الروح القتالية والإصرار على الاستمرار في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
أثبتت هذه اللحظة أن القيادة الفلسطينية ليست مجرد شخص واحد، بل مؤسسة قائمة على الإرادة والأفكار والمبادئ، وأن إرث السنوار سيستمر في توجيه الأجيال القادمة من المقاومين، مع المحافظة على الثوابت الوطنية والسياسية التي جسدها طوال حياته.
الإرث السياسي والميداني ليحيى السنوار
يمثل إرث يحيى السنوار أحد أبرز الأمثلة على القيادة التي تجمع بين البعد الميداني والسياسي، حيث أصبحت استراتيجياته وتكتيكاته نموذجًا يُدرس في التحليل العسكري والسياسي الفلسطيني، خلال سنوات قيادته، ساهم السنوار في تعزيز القدرة الردعية للمقاومة الفلسطينية وإعادة تشكيل موازين القوى داخل غزة وخارجها، مؤكدًا أن القطاع ليس مجرد مساحة محاصرة، بل قلب نابض للمقاومة قادر على التأثير في السياسة الإقليمية والدولية.
لقد رسّخ السنوار من خلال قيادته ومبادراته، فكرة أن المقاومة الحقيقية تعتمد على التخطيط الذكي، المرونة الاستراتيجية، والقدرة على الصمود تحت الضغط العسكري والسياسي، هذا الإرث لم يقتصر على نتائج العمليات الفردية، بل امتد ليصبح رؤية شاملة للمواجهة والإدارة الاستراتيجية للأزمات الفلسطينية، والتي ستستمر في توجيه الأجيال القادمة من القادة والمقاتلين.
استشهاد يحيى السنوار لم يكن نهاية لمسار، بل أصبح رمزًا خالدًا في الوعي الفلسطيني والعربي والدولي. مشهد استشهاده، مساره السياسي والميداني، وأثره العميق على المقاومة، يذكّر العالم أن غزة ليست مجرد أرض محاصرة، بل إرادة وصمودًا يتجاوز الحصار والقتل.
دماؤه وأفعاله ستظل درسًا للأجيال القادمة بأن الحرية لا تُنتزع إلا بالإصرار والمواجهة والتضحيات الجسيمة، وأن الإرادة الفلسطينية قادرة على الاستمرار والتجدد مهما اشتدت آلة الاحتلال. إن إرث السنوار سيظل مرجعًا للقادة والمقاومين، ونموذجًا حيًا على أن القوة الحقيقية ليست في السلاح وحده، بل في التصميم والمبادئ التي تتحرك بها الشعوب نحو الحرية والكرامة.