اغتيالات ما بعد الطوفان.. حين فشلت الدبابات فاختارت إسرائيل تصفية العقول

أماني إبراهيم

2025.10.07 - 01:32
Facebook Share
طباعة

منذ فجر السابع من أكتوبر 2023، لم تعد الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية مجرد مواجهة عسكرية في الميدان. فمع تعثر جيش الاحتلال أمام صمود غزة وتحوّل “طوفان الأقصى” إلى معركة استنزاف طويلة، نقلت تل أبيب حربها إلى ميدان جديد: اغتيال العقول والرموز.
من شوارع غزة المحاصرة إلى أزقة الضاحية الجنوبية في بيروت، ومن الدوحة الهادئة إلى طهران الصاخبة، امتدت يد الموساد في حملة ممنهجة لاستهداف قادة الصف الأول في حماس وحزب الله، في محاولة يائسة لإخماد روح المقاومة بعد فشل القنابل والمدافع.
لكن ما لم تحسبه إسرائيل هو أن هذه الاغتيالات لم تُطفئ جذوة المواجهة، بل زادتها اشتعالًا، وأطلقت مرحلة جديدة من “حرب العقول”، حيث أصبح كل شهيد من القادة رمزًا لإرث المقاومة المتجدد، وكل غارة إسرائيلية تفتح جبهة سياسية وإعلامية جديدة ضد تل أبيب في المنطقة والعالم.

 

يحيى السنوار: القائد الذي قاتل حتى النفس الأخير


في أبريل 2024، دوّت أنباء استشهاد القائد يحيى السنوار، زعيم حركة حماس في غزة وأحد أبرز مهندسي عملية “طوفان الأقصى”.
رغم أن إسرائيل حاولت تصوير اغتياله كـ"انتصار استخباراتي"، فإن مشهد استشهاده تحوّل إلى رمز بطولي أسطوري في الوعي الفلسطيني والعربي.
السنوار لم يُقتل في نفقٍ أو قبوٍ، بل استُشهد مقبلاً غير مدبر، يحمل سلاحه في قلب الميدان بخان يونس، في واحدة من أعنف معارك الحرب.
قُتل السنوار بعد أن قاد بنفسه المعارك الميدانية حتى اللحظة الأخيرة، رافضًا مغادرة القطاع رغم عروضٍ دوليةٍ بالوساطة.
وعقب استشهاده، خرجت الجماهير في غزة تهتف باسمه، وارتفعت صوره في بيروت وصنعاء وتونس، ليُكتب اسمه في سجل القادة الذين قاتلوا حتى النهاية.
محللون وصفوا الحدث بأنه "تحول من اغتيال إلى أسطورة"، إذ إن السنوار ترك خلفه نموذج القائد الذي يقاتل في الصفوف الأمامية، لا الذي يختبئ خلف المكاتب،
بل إن كثيرين شبّهوا لحظاته الأخيرة بمشاهد استشهاد قادة تاريخيين كعبد القادر الحسيني وغسان كنفاني، ليؤكد أن المقاومة لا تعرف الهروب بل المواجهة حتى الموت.

 

محمد الضيف: الأسطورة التي تلاحقها إسرائيل منذ ثلاثة عقود


منذ التسعينيات وحتى اليوم، ظل اسم محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، يثير الرعب في أروقة الاستخبارات الإسرائيلية.
في يوليو 2024، أعلنت إسرائيل تنفيذ عملية استهدفته في خان يونس، زاعمةً اغتياله، لكنها لم تقدم أي دليلٍ قاطع.
ورغم تدمير المبنى المستهدف بالكامل، لم تُصدر كتائب القسام أي بيانٍ رسمي يؤكد استشهاده، ما أبقى الضيف بين الغياب والحضور، بين الأسطورة والحقيقة.
وجود الضيف – أو غيابه – بات جزءًا من الحرب النفسية بين المقاومة والاحتلال.
فبينما تعتبره إسرائيل “عدوها الأول”، تحوّل في الوعي الشعبي الفلسطيني إلى رمزٍ للثبات والبقاء في وجه آلة الموت.
وحتى اليوم، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما زال “الضيف” يخطط من تحت الركام؟ أم أن روحه صارت خفية في كل مقاتل من غزة؟

 

اغتيال إسماعيل هنية: الطلقة التي اخترقت طهران وأشعلت الإقليم


في فجرٍ مشحون برائحة البارود والسياسة، دوّى الانفجار في أحد أحياء العاصمة الإيرانية طهران، ليعلن عن اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في واحدة من أكثر العمليات الإسرائيلية جرأة وإثارة للجدل منذ عقود.
كان ذلك في يوليو 2025، أثناء مشاركة هنية في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، حين اخترقت طائرة مسيّرة انتحارية المجال الجوي الإيراني وضربت الموكب الرسمي داخل منطقة يُفترض أنها محصّنة أمنياً إلى أقصى درجة.
لم يكن اغتيال هنية مجرد استهداف لقائد فلسطيني؛ بل اختراق استراتيجي للسيادة الإيرانية ورسالة مدروسة من تل أبيب إلى محور المقاومة بأسره: لا حصانة لأحد، ولا عاصمة آمنة بعد اليوم.
ومع سقوط هنية وثلاثة من أبنائه، بدا المشهد أشبه بزلزال سياسي وأمني أصاب المنطقة كلها بالارتباك.
من طهران إلى غزة، عمّ الغضب الشوارع، وخرجت الجنازات تتحول إلى مظاهرات عارمة ترفع صور الرجل الذي قاد "طوفان الأقصى" سياسيًا، وصاغ خطاب المقاومة بلغة تجمع بين العقيدة والبراغماتية.
أما إيران، فتعهدت بردّ "لا يمكن تصوره"، مؤكدة أن العملية لن تمرّ دون حساب، فيما أعلنت حماس أن "دماء القائد هنية ستتحول إلى نار فوق رؤوس الاحتلال".
العواصم الغربية بدت بدورها في حرج بالغ؛ إذ لم تستطع واشنطن ولا باريس تبرير خرقٍ بهذا الحجم للقانون الدولي.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أدان العملية بشكل غير مباشر، معتبرًا أنها "تصعيدٌ غير مقبول في قلب عاصمةٍ ذات سيادة"، فيما اكتفت إدارة بايدن ببيان غامض دعا إلى "ضبط النفس من جميع الأطراف".
لكن الرسالة كانت واضحة: إسرائيل تجاوزت كل الخطوط، وإيران فقدت أحد أبرز حلفاء مقاومتها داخل فلسطين.
سياسيًا، مثّل اغتيال هنية ضربة موجعة للبنية التنظيمية لحماس في الخارج، لكنه لم ينجح في تفكيكها كما أرادت تل أبيب.
فالحركة كانت قد أعادت توزيع أدوارها وقيادتها منذ بداية الحرب، ما جعل اغتيال قائدها السياسي الأبرز رمزًا للشهادة أكثر من كونه هزيمة تنظيمية.
في غزة، تحوّل هنية إلى أيقونة جديدة للمقاومة، وصُوّرت جنازته في طهران كمشهد وحدوي جمع الفلسطيني والإيراني واللبناني في ساحة واحدة تحت راية “القدس هي البوصلة”.
أهم ما في المشهد أن الاغتيال، بدل أن يكسر شوكة المقاومة، أعاد توحيدها تحت شعور جماعي بالثأر والكرامة المهدورة.
وبات اسم هنية يُذكر إلى جانب قادة كبار من تاريخ الصراع مثل أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، كأحد الذين ماتوا واقفين على مبدأهم، لا راكعين أمام الاحتلال.


أبو عبيدة: الصوت الذي لم يُغتل بعد


بين كل محاولات الاغتيال، ظلّ الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، لغزًا خاصًا.
ففي أغسطس 2025، زعمت إسرائيل أنها استهدفته في غارةٍ على مدينة دير البلح، لكنّ المقاومة لم تؤكد ولم تنفِ.
ورغم مرور أسابيع، لم يظهر أبو عبيدة في تسجيلٍ جديد، إلا أن صمته تحوّل إلى أداة مقاومةٍ بحد ذاته.
فالمتابعون يرون أن غيابه المدروس جزء من معركة الوعي والإرباك التي تتقنها المقاومة.
وبين شائعات الاغتيال وحرب الإعلام، ما زال اسمه يُذكر في كل خطاب، كأن صوته صار شعارًا لا شخصًا.

 

صالح العاروري: اغتيالٌ في قلب بيروت


في الثاني من يناير 2024، نفذت إسرائيل واحدة من أكثر عملياتها جرأة، حين استهدفت صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في الضاحية الجنوبية لبيروت.
الضربة لم تكن موجهة لشخصٍ فحسب، بل كانت تحديًا مباشرًا لحزب الله وإيران في قلب معقل نفوذهما.
اغتيال العاروري كشف أن إسرائيل مستعدة لتجاوز كل الخطوط الحمراء، وأن الحرب مع حماس لم تعد مقصورة على غزة.
ردّ المقاومة كان سياسيًا بقدر ما هو عسكري، إذ تحوّل العاروري إلى رمز للوحدة الميدانية بين جبهات فلسطين ولبنان.

 

مروان عيسى: “ظلّ السنوار” الذي رحل بصمت


في مارس 2024، اغتالت إسرائيل مروان عيسى، نائب القائد العام لكتائب القسام، في غارةٍ استهدفت نفقًا سريًا وسط القطاع.
عيسى، الذي كان يُوصف بأنه “العقل الهادئ” للمقاومة، مثّل حلقة الوصل بين القيادة السياسية والعسكرية، واغتياله كان محاولة لكسر البنية التنظيمية الداخلية لحماس.
لكن خلال أيام فقط، عيّنت الحركة قيادة ميدانية بديلة، في إشارة إلى أن كل قائدٍ يُستشهد يخلفه جيلٌ مستعدٌّ للقتال حتى النهاية.

 

من بيروت إلى الدوحة: حرب الاغتيالات تتسع وتفقد إسرائيل السيطرة

 

لم تعد حرب الاغتيالات الإسرائيلية مقتصرة على غزة، بل تحولت إلى صراع مفتوح بلا حدود ولا قوانين.
ففي سبتمبر 2024، دوّى الانفجار في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، مُعلنًا اغتيال السيد حسن نصر الله في واحدة من أجرأ العمليات الجوية التي نفذتها إسرائيل منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005.
ضربةٌ مدروسة استهدفت مركز القيادة في منطقة محصّنة تُعدّ “القلب الأمني والسياسي لحزب الله”، تلاها بعد أيام اغتيال هاشم صفّي الدين، رئيس المجلس التنفيذي للحزب، في غارة دقيقة على ضاحية حارة حريك.
بهذين الاغتيالين، ظنت تل أبيب أنها قطعت رأس المقاومة في لبنان، غير أن الواقع سرعان ما أثبت العكس.
إذ اشتعلت الحدود الشمالية من جديد، وانهالت الصواريخ على المستوطنات في الجليل الأعلى، في مشهد أكد أن الحزب لم يُشلّ، بل أعاد تنظيم صفوفه تحت قيادة ميدانية جديدة أكثر جرأة ولامركزية.
لكن ذروة التصعيد جاءت بعد عام كامل، وتحديدًا في 9 سبتمبر 2025، حين امتدّت يد الاغتيال إلى العاصمة القطرية الدوحة.


ففي سابقة خطيرة، شنت طائرات إسرائيلية غارة على منطقة كتارا الثقافية، حيث كان يقيم وفد من حركة حماس المشارك في مفاوضات وقف إطلاق النار.
الضربة أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص، بينهم شرطي قطري، وأعلنت المقاومة حينها أن “إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء” بتحويل العاصمة الوسيطة إلى ساحة حرب.
تلك العملية لم تكن مجرد اغتيال سياسي، بل رسالة تحدٍ لإرادة المجتمع الدولي، ومحاولة إسرائيلية لخلط الأوراق في اللحظة التي كانت المفاوضات فيها تقترب من نقطة تحول.
غير أن النتيجة جاءت عكسية:
ارتفعت حدة الغضب الإقليمي، وأصدرت قطر وتركيا وإيران بيانات غاضبة، بينما اعتبرت الأمم المتحدة أن الهجوم “اعتداءً على السيادة الوطنية ونسفًا لجهود السلام”.
وهكذا، تحولت حرب الاغتيالات من أداة ردع إلى أداة انتحار سياسي لإسرائيل، إذ أدخلت تل أبيب في مواجهة مفتوحة مع قوى إقليمية عدة، ودفعت الرأي العام العالمي إلى إعادة تقييم “شرعية الدفاع عن النفس” التي لطالما تذرعت بها.

 

حين تتحول الدماء إلى رسالة


بعد عامين من حرب الظل الممتدة من غزة إلى طهران، بات واضحًا أن إسرائيل انتصرت في الاغتيال، لكنها هُزمت في الوعي.
اغتالت القادة، لكنها فشلت في اغتيال الفكرة؛ فكرة المقاومة التي تجاوزت الأفراد لتصبح مشروعًا سياسيًا وعقائديًا ممتدًا في الوجدان العربي والإسلامي.
سقط يحيى السنوار مقبلًا غير مدبر في الميدان، واختفى محمد الضيف بين الأنقاض دون أن يُعلن موته أو حياته، واستُشهد قادة حزب الله وامتدت الحرب إلى قلب العواصم، لكن الرسالة بقيت واحدة: أن إرادة الشعوب لا تُغتال.
لقد أرادت إسرائيل أن تُغلق ملف “طوفان الأقصى” باغتيال رموزه، لكنها فتحت على نفسها معركة الوعي والشرعية في كل العالم.
ومع كل شهيد يسقط، يتجدد السؤال الأكبر:هل تستطيع إسرائيل أن تقتل فكرة الحرية في أمة وُلدت من تحت الركام؟
الإجابة باتت واضحة في عيون أطفال غزة، وفي هتافات الملايين من الرباط إلى كوالالمبور: القادة يُغتالون، لكن المقاومة لا تموت.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 2