بعد أشهر على انتهاء العمليات العسكرية في عدد من المناطق اللبنانية، لا تزال كميات هائلة من الركام تغطي مساحات واسعة من البلاد، في مشهد يعكس حجم الدمار الذي خلّفه القصف والتفجير اليومي خلال فترة الحرب. ورغم مرور أكثر من عشرة أشهر على وقف إطلاق النار، لم تكتمل بعد خطة إدارة الأنقاض التي أعدّتها وزارة البيئة، والتي تواجه سلسلة طويلة من العقبات التقنية والإدارية واللوجستية.
أنقاض بحجم المدن
تشير التقديرات الأولية المعتمدة لدى الجهات الرسمية إلى وجود ما يقارب 16 مليون طن من الأنقاض، أي نحو عشرة ملايين متر مكعّب، وفق تقديرات صادرة عن مؤسسات دولية. وتشمل هذه الكميات أنقاض 17 قضاء من أصل 26، باستثناء المناطق التي لا تزال تحت الاحتلال أو تشهد اعتداءات متكررة.
ويُعدّ قضاء بعبدا الأكثر تضرراً بما يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون طن من الركام، يليه مرجعيون، ثم صور، فبنت جبيل، فالنبطية، في حين أن الأقضية الأخرى تحتوي على كميات أقل نسبياً.
غير أن حجم الركام لا يُعدّ المشكلة الوحيدة، إذ يتكوّن من خليط معقّد من مواد البناء والحديد والخشب والزجاج والبلاستيك، إضافة إلى مكوّنات تُصنّف خطرة بيئياً وصحياً مثل الأسبستوس، الطلاء المحتوي على المعادن الثقيلة، والذخائر غير المنفجرة. ما يجعل التعامل مع هذه الأنقاض تحدياً بيئياً يتجاوز عمليات الجرف والنقل التقليدية.
الاستجابة الرسمية البطيئة
رغم ضخامة الكارثة، تأخرت عمليات رفع الأنقاض أسابيع عدة بعد توقف القصف، قبل أن تبدأ مبادرات محدودة من بعض البلديات والجهات المحلية لفتح الطرقات وإزالة الركام من الشوارع. لاحقاً، جرى تكليف مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة واتحاد بلديات الضاحية الجنوبية بمهمة التنسيق الميداني، فيما تولّت وزارة البيئة وضع الإطار العام للخطة الوطنية لإدارة الأنقاض.
وطلبت الوزارة من البلديات تحديد مواقع مؤقتة لتجميع الركام بانتظار البتّ بمواقع التخزين والمعالجة النهائية. وتم تحديد نحو 40 موقعاً موزعة على الأقضية المتضررة، لكن هذه الخطوة جرت من دون استكمال دراسات الأثر البيئي المطلوبة، بسبب ضيق الوقت وتعقيدات الإجراءات. واقتصر الأمر على تقييم أولي وصفي لتلك المواقع، ما يجعلها عرضة لاحقاً لإعادة النظر في مطابقتها للمعايير البيئية.
خارطة الطريق البيئية
تتألف خطة وزارة البيئة من مرحلتين أساسيتين:
الأولى، رفع الركام وتجميعه مؤقتاً في مواقع محددة، وهي المرحلة الجارية حالياً؛
والثانية، فرز المواد وإعادة تدويرها أو التخلص منها بطريقة مستدامة.
وتبحث الوزارة في خيار إجراء عمليات الفرز داخل المواقع المؤقتة نفسها لتقليل تكاليف النقل والانبعاثات، شرط توفر الظروف الفنية الملائمة. إلا أن تنفيذ هذا الخيار يتطلّب إعداد دراسات بيئية واجتماعية تفصيلية، تشمل تأثيرات الغبار والضجيج والانبعاثات على السكان المجاورين، إضافة إلى فحص المواد الخطرة وعزلها قبل البدء بالفرز.
أما المواقع الواقعة ضمن مناطق مأهولة، فسيتم نقل أنقاضها مباشرة إلى مواقع نهائية مخصّصة، بعد تحديد مسارات آمنة لحركة الشاحنات وتقييم الانعكاسات المرورية والبيئية.
وتقضي الخطة بأن تُعاد معالجة نحو 70% من الأنقاض لإدخالها ضمن مشاريع الاقتصاد الدائري، عبر إعادة استخدامها في أعمال البناء أو رصف الطرق واستصلاح الأراضي، فيما تُخصّص نسبة الـ30% المتبقية لردم المحاجر المتوقفة أو لإعادة تأهيلها بيئياً.
تحديات لوجستية ومواقع لم تُحدد بعد
حتى اليوم، لم يُحسم نهائياً تحديد المواقع التي ستُجرى فيها عمليات الفرز والمعالجة، ولا المواقع النهائية التي ستستقبل الركام. وتشير المعلومات إلى أن وزارة البيئة أجرت مسحاً أولياً شمل 25 محجراً خاصاً وتسعة عامة، واختير منها مبدئياً 13 محجراً خاصاً وأربعة عامة كوجهات محتملة.
في الجنوب والبقاع مثلاً، طُرحت مواقع في القليلة والغندورية ومزرعة بصفور وجباع والبويضة، إضافة إلى محاجر عرسال والتويتي وعين بورضاي في البقاع. ومع ذلك، لم يتم التواصل بعد مع أصحاب المحاجر الخاصة، بانتظار استكمال التقييمات الفنية والحصول على الموافقات القانونية.
وتبرز أمام هذه الخطة مجموعة من التحديات، أبرزها تحديد الكميات الدقيقة للركام المتبقي، وضمان مطابقة المواقع للمعايير البيئية، إضافة إلى الروتين الإداري الذي قد يمدّد مدة الإجراءات المطلوبة إلى أكثر من ثمانية أشهر. كما تخشى الجهات المعنية من أن تؤدي العشوائية التي رافقت المرحلة الأولى من رفع الركام إلى صعوبات لاحقة في تنظيم العقود والتلزيمات.
مسار طويل نحو المعالجة المستدامة
يرى خبراء بيئيون أن الطريق لا يزال طويلاً أمام تنفيذ خطة وطنية شاملة لإدارة الأنقاض، نظراً لتعقيد الملف وحجمه الكبير، وارتباطه بملفات أخرى مثل إعادة الإعمار، الصحة العامة، والمياه الجوفية. وتؤكد وزارة البيئة أن العمل جارٍ بالتنسيق مع الجهات المانحة والمنظمات الدولية لتأمين الدعم الفني والمالي، بهدف تسريع المراحل المقبلة.
ومع أن الخطة تمثل خطوة أولى نحو معالجة منظّمة ومستدامة للدمار الواسع الذي خلّفته الحرب، إلا أن نجاحها سيبقى رهناً بمدى التزام الإدارات المحلية والوزارات المعنية، وقدرتها على تجاوز البيروقراطية التقليدية التي عطّلت مشاريع مشابهة في الماضي.