تشكل جهود المصالحة الوطنية في ليبيا اختباراً حقيقياً لقدرة المؤسسات السياسية على تجاوز الانقسامات العميقة التي عصفت بالبلاد منذ 2011. فمع انعقاد الاجتماع الثامن للجنة التحضيرية في مدينة الزنتان، تتضح التحديات الكبيرة التي تواجه الأطراف الليبية في السعي إلى توافق سياسي شامل يضمن الاستقرار ويعالج جذور الصراعات، هذا الاجتماع ليس مجرد خطوة إجرائية، بل مؤشر على جدية بعض الأطراف في بناء تفاهمات وطنية، لكنه يكشف أيضاً هشاشة التنسيق بين المؤسسات المختلفة وتعقيدات توزيع المناصب السيادية.
يرى المراقبون أن معالجة الملفات الكبرى مثل ملف السلاح، ومنصب رئيس الدولة، والحكم المحلي، وتوزيع الدخل، والمواطنة، لا يمكن أن تتحقق من دون إرادة سياسية واضحة وتنازلات متبادلة. فقد أشار عضو مجلس النواب عبد السلام نصية إلى أن بناء الثقة بين الأطراف هو الأساس لإنجاح أي مصالحة، وهو ما يتطلب خطوات عملية ملموسة، وليس مجرد بيانات أو وعود، لضمان التوافق الوطني والمضي نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية تحظى بقبول عام.
تؤكد المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان على أن أي تسوية سياسية لن تكون مستدامة إذا لم ترتكز على العدالة وحقوق الضحايا، وإنهاء الإفلات من العقاب الذي يفاقم الانقسامات ويعزز مناخ الانتهاكات، وهو ما يجعل من مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان وصول الضحايا إلى العدالة الوطنية والدولية أمراً محورياً في بناء الثقة بين الأطراف المختلفة.
في الوقت نفسه، يمثل إنجاز المناصب السيادية خطوة محورية لتهيئة الأرضية السياسية للمصالحة، ما شدد عليه رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، مشيراً إلى أن حسم هذه المناصب يضمن تحقيق التوافق الوطني ويتيح للدولة استكمال خريطة الطريق نحو حل سياسي مستقر. الاجتماعات المتتابعة في طرابلس وبنغازي تسعى لتوحيد مواقف المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، بما يعزز فرص تشكيل مجلس مفوضية انتخابات قادر على إدارة العملية الانتخابية وفق معايير شفافة وموثوقة.
من الجانب الدولي، يبرز دعم البعثة الأممية والاتحاد الأفريقي والدول الكبرى كعامل مساعد على دفع العملية السياسية، عبر تقديم خبرات فنية وضمانات سياسية تشجع الأطراف الليبية على الالتزام بالمسار التوافقي. ورغم ذلك، يبقى الخلاف على التفاصيل الدقيقة لكل ملف، وبالأخص المناصب السيادية وملف السلاح، مصدر قلق مستمر يمكن أن يعرقل أي تقدم ملموس ما لم يتم اعتماد آليات حقيقية للضغط السياسي والتنسيق الداخلي.
في المحصلة، تشكل اجتماعات الزنتان محطة مهمة في مسار المصالحة الوطنية، لكنها تضع ليبيا أمام اختبار صعب: القدرة على تحويل الحوار السياسي إلى اتفاقيات قابلة للتنفيذ، تتيح للدولة الليبية تأسيس مؤسسات قوية ومستقرة، وضمان مشاركة عادلة لكل الأطراف في صنع القرار، بما يقلص مناخ التوتر والانقسام ويعزز فرص الانتقال إلى دولة مؤسسات.