تشهد الساحة السورية في الأشهر الأخيرة تصاعدًا لافتًا في مؤشرات التنافس الإقليمي، مع بروز ملامح صراع نفوذ غير معلن بين إسرائيل وتركيا، تتداخل فيه الأبعاد العسكرية والسياسية، وتنعكس تداعياته على توازنات القوى داخل الأراضي السورية وما حولها.
رسائل متبادلة عبر الغارات
تزايدت الضربات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية في الآونة الأخيرة، لتشمل مواقع في دمشق وحمص وحماة واللاذقية، في إطار ما تعتبره تل أبيب “إجراءات استباقية” لمنع أي تمركز عسكري قد يهدد تفوقها الأمني في المنطقة.
لكن المراقبين يرون أن هذه الغارات تجاوزت إطارها العسكري التقليدي، لتتحول إلى رسائل سياسية موجهة لتركيا، التي كثّفت في المقابل نشاطها العسكري واللوجستي داخل سوريا، عبر زيارات ميدانية واتفاقات محلية تؤشر إلى نية ترسيخ وجود طويل الأمد في الشمال والوسط السوري.
تشير المعلومات المتداولة في الأوساط الدبلوماسية إلى أن بعض الغارات الإسرائيلية الأخيرة استهدفت مواقع يُعتقد أنها تحتوي على تجهيزات أو أنظمة دفاع مصدرها تركي، رغم نفي أنقرة القاطع لأي استهداف مباشر لقواتها أو معداتها.
وبينما تلتزم إسرائيل الصمت تجاه طبيعة الأهداف الدقيقة، يرى محللون أن التصعيد يحمل دلالات أوسع تتعلق برسم خطوط النفوذ الجديدة في سوريا بعد التحولات السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد منذ مطلع 2024.
منافسة على النفوذ الإقليمي
تعتبر كل من تركيا وإسرائيل الوجود في سوريا جزءًا من أمنها الإقليمي، وإن اختلفت الدوافع والوسائل.
فأنقرة ترى في شمال سوريا عمقًا استراتيجيًا لأمنها الحدودي وسياجًا ضد التهديدات الكردية، وتسعى عبر ترتيباتها الميدانية إلى ضمان مساحة نفوذ تمتد حتى العمق الداخلي السوري.
أما تل أبيب، فتركّز على منع أي وجود عسكري معادٍ بالقرب من حدودها، سواء كان إيرانيًا أو تركيًا، وتتعامل مع أي تمركز جديد كاحتمال لتقويض تفوقها الجوي والاستخباراتي.
الضربات الإسرائيلية الأخيرة، بما فيها تلك التي طالت منشآت ومطارات عسكرية مثل “T4” و”تدمر”، عُدّت من قبل خبراء محاولة لقطع الطريق أمام أي تموضع تركي جديد في المناطق الوسطى من سوريا، وهي مناطق شهدت في الأشهر الماضية زيارات متكررة لوفود تركية فنية وعسكرية.
ويؤكد محللون أن هذه التحركات المتبادلة تعبّر عن تنافس ضمني على مستقبل النفوذ الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب السورية، حيث تسعى كل دولة لتأمين موقع متقدم في المشهد المقبل.
الغارات كأداة ضغط سياسي
توظّف إسرائيل غاراتها الجوية كوسيلة مزدوجة: ردع عسكري وتوجيه سياسي في الوقت نفسه.
فكل استهداف لموقع أو منشأة سورية يحمل رسائل متعددة، ليس فقط إلى دمشق أو طهران، بل أيضًا إلى أنقرة، في محاولة لتحديد سقف التحركات التركية داخل الأراضي السورية.
ويعتبر مراقبون أن هذه “اللغة العسكرية” تمثل امتدادًا لنهج إسرائيلي تقليدي يقوم على فرض الخطوط الحمراء ميدانيًا بدل الاكتفاء بالتفاهمات الدبلوماسية.
في المقابل، عبّر مسؤولون أتراك مؤخرًا عن رفضهم لما وصفوه بـ”الاعتداءات المتكررة” التي تزعزع الاستقرار الإقليمي، مؤكدين أن العمليات الإسرائيلية “تستهدف جهود السلام” وتعرقل المسار السياسي الذي تعمل أنقرة على دفعه عبر قنواتها مع دمشق والعواصم الإقليمية.
ويشير ذلك إلى أن التوتر تجاوز الإطار العسكري ليتحول إلى تنافس على شرعية الدور الإقليمي في إعادة تشكيل المشهد السوري.
سوريا.. ساحة مفتوحة للنفوذ المتقاطع
تجد سوريا نفسها مجددًا في قلب صراع المصالح المتداخلة، بعدما كانت ساحة تنافس بين موسكو وطهران وواشنطن خلال العقد الماضي.
اليوم، باتت أنقرة وتل أبيب أبرز الفاعلين الإقليميين على الأرض السورية، كل منهما يسعى إلى تثبيت موقعه ضمن معادلة إقليمية جديدة تتكوّن ملامحها ببطء.
ويرى محللون أن المشهد الراهن يعكس انتقال الصراع من المستوى العسكري إلى سباق النفوذ الاستراتيجي، إذ تحاول تركيا ضمان وجود دائم في مناطق شمال ووسط سوريا، فيما تسعى إسرائيل إلى إبقاء المجال الجوي السوري تحت سيطرتها الكاملة لمنع أي تهديد محتمل.
هذه المعادلة تجعل من الأراضي السورية منصة للاحتكاك السياسي والعسكري غير المباشر، وتزيد من هشاشة الوضع الأمني في ظل غياب حل سياسي شامل.
أبعاد اقتصادية واستراتيجية
يتجاوز التنافس الإسرائيلي–التركي الطابع الأمني البحت، ليشمل ملفات اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بإعادة الإعمار وطرق التجارة والطاقة.
فتركيا تسعى لأن تكون البوابة الشمالية لإعادة إعمار سوريا، بما يمنحها نفوذًا اقتصاديًا في الداخل السوري، بينما تنظر إسرائيل إلى أي تمدد تركي في هذا الاتجاه على أنه تهديد لمشاريعها المستقبلية المرتبطة بخطوط الطاقة شرق المتوسط.
كما تخشى تل أبيب من أن تتحول الشراكات التي تجمع أنقرة بعدد من الدول العربية، مثل قطر والسعودية والأردن، إلى تحالف اقتصادي–سياسي جديد قد يحد من قدرتها على التأثير في ترتيبات ما بعد الحرب.
ومن هذا المنطلق، تواصل إسرائيل استخدام أدواتها العسكرية لتأكيد حضورها كـ“لاعب مركزي” في أي معادلة إقليمية مقبلة.
مستقبل مفتوح على احتمالات التصعيد
رغم أن الصراع بين الطرفين ما زال في إطار غير معلن، إلا أن استمرار تبادل الرسائل العسكرية يحمل مخاطر حقيقية لتوسّع المواجهة.
فكل غارة جديدة قد تُفسَّر كخطوة تصعيدية، وكل تحرك تركي داخل سوريا قد يُعتبر تجاوزًا لخط أحمر إسرائيلي.
ويُجمع المراقبون على أن غياب التنسيق الدولي الفعّال يجعل احتمالات سوء الفهم أو التصعيد غير المقصود قائمة في أي لحظة.