في لحظة بدت وكأنها انقلاب على مسار الحرب، دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب إسرائيل إلى وقف القصف على غزة، مستنداً إلى إعلان «حماس» استعدادها للإفراج عن الرهائن والتعاطي مع بعض بنود الخطة الأميركية. هذه الدعوة المفاجئة، والتي جاءت بلهجة آمرة لإسرائيل، فتحت الباب أمام سباق محموم في المواقف الدولية بين مؤيد يرى في الخطوة «أول اختراق منذ عامين»، ومتحفظ يخشى أن يكون وقف القصف مجرد استراحة تكتيكية في حرب لم تُحسم بعد.
بين الضغط والهيمنة
تحرك ترمب ليس مجرد مبادرة إنسانية لإنقاذ الرهائن أو وقف المجزرة، بل محاولة لإعادة الإمساك بالملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي عبر فرض «خطة ترمب» كمرجعية وحيدة للتسوية.
لكنّ المفارقة أن خطابه جمع بين نبرة «المنقذ» الذي يطالب بوقف القصف فوراً، و«المحارب» الذي يهدد حماس بـ«الجحيم» إن لم تنفذ شروطه. هذا التناقض يعكس ما يمكن تسميته «سلام تحت الإكراه»، وهو ما يثير شكوكاً حول مدى قابليته للتحول إلى اتفاق مستدام.
تفاؤل مشروط
العواصم الأوروبية رحّبت بالخطوة، لكن كل طرف قرأها من زاويته:
باريس رأت فيها اقتراباً من «السلام التاريخي»، محاولةً استثمار أي اختراق لتعزيز دورها الدبلوماسي.
برلين ولندن ركزتا على «نزع سلاح حماس» كشرط أساسي، ما يكشف هاجس الأمن الإسرائيلي في الموقف الأوروبي.
أما إسبانيا وإيرلندا، فطرحتا بعداً إنسانياً بحتاً، يتمثل في إدخال المساعدات ووقف المجاعة، وهو خطاب يعكس ضغط الشارع الأوروبي.
هكذا يظهر أن الموقف الأوروبي موحّد في الشكل، لكنه متناقض في الجوهر بين الاعتبارات الأمنية والسياسية والإنسانية.
بين الاحتضان والتحفظ
اللافت في المواقف الإقليمية أن تركيا والأردن ومصر وقطر تعاملت مع إعلان «حماس» باعتباره فرصة لإعادة طرح سؤال: من يحكم غزة بعد الحرب؟
أنقرة رأت أن اللحظة سانحة لفرض «سلام دائم» يعيد الاعتبار لدور القوى الإقليمية.
عمّان حذرت من خطط الضم الإسرائيلي وأكدت أن أي وقف لإطلاق النار بلا أفق سياسي سيكون هشاً.
القاهرة والدوحة تستعدان لاستضافة حوار فلسطيني داخلي، ما يعكس محاولة استباق أي وصاية دولية قد تنتج عن الخطة الأميركية.
بالمحصلة، المواقف الإقليمية تسعى إلى انتزاع موقع تفاوضي يمنع واشنطن من الاستفراد بمستقبل القطاع.
الموقف الإسرائيلي: بين الانصياع والمناورة
إسرائيل بدت مربكة. مكتب نتنياهو أعلن استعداده لتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، لكن الجيش واصل قصفه المكثف، خصوصاً في شمال غزة. هذا التناقض يعكس مأزق تل أبيب: فهي لا تستطيع رفض ضغوط ترمب علناً، ولا تريد أن تُظهر عجزها عن الحسم عسكرياً.
منتدى عائلات الرهائن أضاف ضغطاً داخلياً هائلاً، مطالباً بوقف الحرب لإنقاذ المحتجزين، فيما يتخوّف اليمين الإسرائيلي من أن قبول الخطة يعني عملياً الاعتراف ببقاء «حماس» جزءاً من المعادلة.
«حماس»: قبول تكتيكي أم تحول استراتيجي؟
قبول الحركة الإفراج عن جميع الرهائن خطوة كبرى في مسار الحرب، لكنها لم تُبد أي استعداد لمناقشة نزع سلاحها. هذا الموقف يفتح الباب لتساؤلات:
هل الهدف من القبول هو كسب شرعية سياسية دولية؟
أم أنه تكتيك لتخفيف الضغط العسكري والإنساني ثم العودة إلى الميدان؟
إعلان الحركة عن حوار فلسطيني شامل بإشراف مصر وقطر يشير إلى سعيها لترسيخ نفسها كفاعل سياسي لا يمكن تجاوزه، حتى في لحظة الانكسار العسكري.
بين وعود الهدوء وواقع القصف
في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن «سلام قريب»، كان الميدان يشتعل بقصف دموي أسفر عن عشرات القتلى، بينهم أطفال وصحافيون.
هنا يظهر التناقض الأكبر: مشهد دولي يتحدث عن المفاوضات ووقف القصف، مقابل مشهد إنساني في غزة لا يرى إلا مزيداً من الدم.
هذه الهوة بين الخطاب السياسي والواقع الميداني تجعل أي تفاؤل دولي عرضة للانهيار ما لم يُترجم إلى خطوات عملية على الأرض.
هل هي بداية النهاية؟
بين خطاب ترمب وضغوط أوروبا وحذر الإقليم وتناقض إسرائيل، يقف العالم أمام لحظة تبدو تاريخية لكنها محفوفة بالألغام.
قد يفتح قبول «حماس» وردود الفعل الدولية نافذة نادرة لإنهاء الحرب، لكن هشاشة الثقة، واستمرار القصف، وغموض مصير سلاح المقاومة، تجعل من الصعب القول إننا أمام بداية النهاية.
الأرجح أن ما نشهده الآن ليس سلاماً وشيكاً، بل معركة سياسية جديدة ستحدد مستقبل غزة: هل ستكون تحت وصاية دولية، أم بيد سلطة انتقالية فلسطينية، أم تبقى رهينة معادلة «لا حرب تحسم ولا سلام يكتمل»؟