بعد تهمة دعم "حماس".. القضاء الأميركي يرفض مقاضاة أونروا حفاظًا على مهامها الإنسانية

2025.10.03 - 01:10
Facebook Share
طباعة

في قرار قضائي بارز، أصدرت محكمة فدرالية أمريكية في نيويورك حكمًا لصالح وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بعد دعوى رفعها أقارب ضحايا هجوم 7 أكتوبر 2023 في إسرائيل، متهمين الوكالة بتقديم دعم مباشر أو غير مباشر لحركة حماس. الحكم أثار جدلاً واسعًا على الصعيد القانوني والدولي، إذ يعيد التأكيد على الحصانة القضائية للوكالات الأممية في مواجهة دعاوى مدنية متعلقة بمناطق النزاع، ويطرح تساؤلات حول مدى مسؤولية هذه الوكالات تجاه الأفراد الذين يتضررون من الأعمال الإرهابية.

القرار يمثل انعطافًا في النقاش المستمر منذ سنوات حول عمل أونروا في قطاع غزة، ويأتي في وقت يتزايد فيه الضغط السياسي من بعض الأطراف، خصوصًا إسرائيل، لمساءلة الوكالة عن دورها المزعوم في النزاعات المسلحة، وهو ما يجعل القضية أكثر حساسية وتعقيدًا على المستوى الدولي والقانوني.

 

الدعوى التي رفعت ضد أونروا تناولت اتهامات مباشرة وغير مباشرة للوكالة، مفادها أن وجودها في غزة ونشاطها الإنساني ساهم بطريقة ما في دعم حركة حماس، وهو ما سمح بوقوع الهجوم الدموي في أكتوبر 2023. المدعون، وهم عائلات نحو 100 ضحية من الهجوم، طالبوا بتعويضات مالية تصل إلى مليار دولار، معتبرين أن الوكالة كانت عنصرًا فاعلًا في سياق دعم الإرهاب بشكل غير مباشر.

المدعون قدموا حججهم القانونية بناءً على فكرة أن تقديم الخدمات الإنسانية في مناطق تسيطر عليها جماعات مسلحة يجب ألا يكون معفيًا من المسؤولية القانونية إذا أدى بطريقة أو بأخرى إلى تمكين هذه الجماعات. كما أكدوا أن أونروا كانت على علم بالأنشطة التي تقوم بها حماس في مناطق عملها، وهو ما جعلهم يسعون لتجاوز الحصانة القانونية المعتادة للأمم المتحدة.

 

وفي أبريل 2025، أعلنت وزارة العدل الأمريكية رسميًا أن أونروا ليست محصنة ضد هذه الدعوى، معتبرة أن الوكالة كانت مساهمة في الجرائم المرتكبة في هجوم أكتوبر 2023. الخطاب أثار جدلاً واسعًا، لأنه جاء في توقيت حساس سياسيًا وقانونيًا، وأعاد النقاش حول إمكانية مساءلة الوكالات الأممية في المحاكم الوطنية، رغم أن القانون الدولي يمنحها حصانة واسعة لضمان أداء مهامها الإنسانية والسياسية دون تدخل من أي دولة عضو.

هذا الموقف الرسمي من وزارة العدل يمثل محاولة أمريكية واضحة لممارسة ضغط قضائي على الوكالة، وربما كان يستهدف فتح باب لمساءلة المؤسسات الأممية عن أفعال تقع ضمن نطاق النزاعات المسلحة، وهو أمر يثير حساسيات سياسية كبيرة على مستوى الأمم المتحدة والدول المانحة.

 

أصدرت القاضية الفدرالية أناليسا توريس حكمها بعد دراسة مستفيضة للأدلة والحجج المقدمة من المدعين والدفاع عن الوكالة. جاء الحكم برفض الدعوى بالكامل، معتبرة أن المحكمة غير مختصة بالنظر في القضية، وأن أونروا تتمتع بحصانة قانونية تمنع محاكمتها في القضايا المدنية على صعيد الدول الأعضاء.


استندت القاضية الفدرالية أناليسا توريس في حكمها إلى جملة من المبررات القانونية التي تتسق مع المعايير الدولية المعمول بها في ما يخص الحصانة الأممية. فقد أوضحت أن وكالة "أونروا" تعد جهازًا تابعًا للأمم المتحدة، وبالتالي فهي تتمتع بحصانة قضائية لم تتنازل عنها، ما يجعل أي دعوى مدنية بحقها غير قابلة للنظر أمام المحاكم الوطنية. كما شددت على أن هذه الحصانة لا تقتصر على بعض الأنشطة، بل تشمل جميع الأعمال الرسمية التي تدخل ضمن نطاق مهام الوكالة، حتى وإن استُغلت بعض تلك الأنشطة بشكل غير مباشر من أطراف أخرى خارج القانون. واعتبرت المحكمة أن الحفاظ على استقلالية "أونروا" يظل أمرًا جوهريًا، إذ إن تمكين المحاكم الوطنية من التدخل في شؤونها سيعرض قدرتها على تقديم الخدمات الإنسانية والتعليمية والصحية للخطر، ويضعها تحت رحمة التوازنات السياسية لكل دولة على حدة.

بهذا الحكم، وجّه القضاء الأمريكي رسالة واضحة مفادها أنه ملتزم بالمعايير الدولية التي تمنح الوكالات الأممية حصانة واسعة، وأن أي محاولة لتجاوز هذه الحصانة تحت ذرائع تتعلق بالنزاعات المسلحة أو الاتهامات بالإرهاب ستظل محكومة بالفشل. لكن في المقابل، لم يمر القرار دون إثارة جدل، خاصة على مستوى العائلات التي رفعت الدعوى. فقد عبّر محاميهم، جافرييل مايرون، عن استيائه العميق من الحكم، واصفًا إياه بأنه "خاطئ" وأنه يغلق الباب أمام الضحايا وأسرهم في سعيهم وراء العدالة عبر القضاء الأمريكي. وأكد مايرون أنهم ماضون في استئناف القرار، معتبرًا أن المحكمة لم تستوعب بشكل صحيح جوهر حجتهم الأساسية المتعلقة بمسؤولية الوكالة غير المباشرة عن دعم حماس.

وعلى الصعيد الدولي، استُقبل القرار بارتياح ضمني من جانب الأمم المتحدة والدول المانحة، إذ يعزز قدرة "أونروا" على الاستمرار في أداء مهامها في مناطق النزاع دون أن تكون عرضة لملاحقات قضائية قد تعرقل عملها أو تجفف مصادر تمويلها. ومع ذلك، فإن الحكم لا يخلو من معارضة، إذ يرى بعض المراقبين أن الحصانة الواسعة لا ينبغي أن تتحول إلى درع يحول دون المساءلة، خصوصًا إذا ثبت أن الوكالة سهّلت، ولو بشكل غير مباشر، أنشطة لجماعات مسلحة. هذا التباين في المواقف يؤكد أن ملف الحصانة الأممية سيظل ساحة مفتوحة للصراع القانوني والسياسي، خاصة في ظل النزاعات المستمرة في الشرق الأوسط.

 

القرار الأمريكي الأخير برفض الدعوى ضد وكالة "أونروا" يعيد من جديد ترسيخ مبدأ الحصانة القانونية للوكالات الأممية، وهو ما يعني أن أي محاولة لمساءلتها قضائيًا لا يمكن أن تتم إلا ضمن الأطر الدولية المخصصة لذلك، لا عبر المحاكم الوطنية للدول. هذه النقطة تعزز استقلالية الوكالات التابعة للأمم المتحدة وتجعلها بعيدة عن الضغوط السياسية والقانونية التي قد تمارسها حكومات معينة، لكنها في المقابل تفتح بابًا واسعًا أمام الجدل المتعلق بمدى إمكانية تحقيق العدالة للضحايا المتضررين من النزاعات.

بالنسبة للمدعين الذين سعوا إلى الحصول على تعويضات مالية، فإن الحكم يمثل عقبة كبيرة أمامهم، إذ لم يعد الطريق إلى مقاضاة الوكالات الأممية عبر المحاكم الأمريكية ممكنًا. هذا الوضع سيجبرهم على البحث عن قنوات بديلة، قد تكون من خلال الاستئناف أمام محاكم أعلى في الولايات المتحدة، أو بمحاولة تدويل القضية عبر المحاكم الدولية أو اللجوء إلى مسارات سياسية ودبلوماسية تضغط على الأمم المتحدة نفسها. ومع ذلك، فإن هذه المسارات ليست سهلة، وغالبًا ما تكون طويلة ومعقدة، وقد لا تحقق نتائج ملموسة في المدى القريب.

وفي جوهر الأمر، يعكس الحكم إشكالية متكررة في القانون الدولي، وهي الموازنة بين حماية عمل الوكالات الإنسانية وبين ضمان عدم إفلاتها من المساءلة. فالوكالات الأممية مثل "أونروا" تحتاج إلى حصانة قوية حتى تتمكن من الاستمرار في أداء مهامها في بيئات نزاع حساسة مثل غزة، لكن في المقابل هناك شعور متنامٍ لدى بعض الضحايا وأسرهم بأن هذه الحصانة قد تتحول إلى "غطاء" يحول دون محاسبة الوكالة إذا اتُّهمت – ولو بشكل غير مباشر – بأنها سهلت أعمالًا خطيرة أو ساعدت في تقوية جماعات مسلحة. هذا الصراع بين الحماية والمسؤولية سيبقى حاضرًا في النقاشات الدولية، خاصة مع تكرار مثل هذه القضايا في مناطق نزاع أخرى.

 

تأسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عام 1949، في أعقاب النكبة وما رافقها من نزوح جماعي للفلسطينيين، لتكون الذراع الأممي المكلف بتقديم الدعم الإغاثي والخدمات الأساسية لهذه الفئة التي أصبحت واحدة من أقدم وأكبر جماعات اللاجئين في العالم. ومنذ ذلك الوقت، تحولت "أونروا" إلى مؤسسة أساسية في حياة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، حيث تقدم التعليم والصحة والإغاثة والمساعدات الاجتماعية.

تخدم الوكالة اليوم أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني موزعين بين غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا، وتشرف على شبكة واسعة من المدارس والعيادات والمراكز المجتمعية التي تشكل شريان حياة لمجتمعات بأكملها. لكن رغم هذا الدور الإنساني، ظلت "أونروا" موضع جدل سياسي متكرر، حيث واجهت اتهامات – خاصة من الجانب الإسرائيلي – بأنها تغض الطرف عن أنشطة حماس أو أنها سمحت بتسلل نفوذ سياسي داخل منشآتها، فضلًا عن اتهامات أخرى تتعلق بإدارة الموارد أو المناهج التعليمية.

ورغم هذه الانتقادات، ما زالت الوكالة تحظى بدعم واسع من الأمم المتحدة ومن عدد كبير من الدول المانحة، باعتبارها المؤسسة الوحيدة القادرة على ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الإنساني للاجئين الفلسطينيين. ويعد استمرار وجودها ضرورة عملية، خصوصًا في ظل غياب أي بدائل حقيقية قادرة على إدارة هذا الملف المعقد، مما يجعل أي استهداف قانوني أو سياسي لها انعكاسًا مباشرًا على حياة ملايين البشر.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 5