يشهد لبنان سجالاً متصاعداً منذ الإعلان عن مبادرة لإضاءة صخرة الروشة، أبرز معالم العاصمة بيروت، بصور لرموز من المقاومة في ذكرى اغتيالهم. الحدث الذي حمل في طياته طابعاً رمزياً بالنسبة لمناصريه، سرعان ما تحوّل إلى مادة خلافية أثارت جدلاً سياسياً وقانونياً وشعبياً، بين من اعتبره تكريماً لشهداء قاوموا الاحتلال، ومن رأى فيه استفزازاً واستغلالاً لمعْلم وطني جامع في إطار حزبي ضيق.
ذاكرة جماعية تتحول إلى منصة صراع
الكتلة الصخرية الشامخة وسط بحر بيروت لم تكن يوماً مجرد مَعْلم طبيعي أو وجهة سياحية، بل رمزاً لهوية العاصمة وذاكرتها الجماعية. على مر العقود، شكّلت الروشة أيقونةً للبنان الحديث، تُزين بطاقات البريد وتتصدر صور السياح. لكن استخدامها في مشهد سياسي حمل صوراً وأبعاداً حزبية أخرجها من هذا الدور الجامع، وطرح تساؤلات جوهرية: هل يجوز تحويلها إلى مساحة لإبراز شعارات أو صور تخص طرفاً بعينه؟ أم يجب أن تبقى فوق كل الاصطفافات، مرآة لوحدة العاصمة وتنوعها؟
مخالفة أم اجتهاد رمزي؟
القوانين المرعية واضحة: أي نشاط يُقام على الأملاك العامة أو المعالم الوطنية يتطلب موافقة مسبقة من الجهات الرسمية المختصة. وفي حالة الروشة، المسؤولية تقع ضمن صلاحيات بلدية بيروت والسلطات الإدارية المعنية. غير أن الخطوة الأخيرة تمّت من دون المرور بالمسار القانوني الكامل، الأمر الذي أثار اعتراضات عديدة وتساؤلات حول شرعيتها.
هذا التجاوز القانوني، وفق المنتقدين، يفتح الباب أمام سابقة خطيرة، إذ يتيح لأي جهة سياسية أو حزبية استغلال الرموز الوطنية في استعراضات ذات طابع سياسي، ما يشكل تحدياً لمفهوم الدولة وهيبتها.
السجال السياسي.. تكريم أم استفزاز؟
المواقف انقسمت بشكل حاد. فريق واسع اعتبر أن تكريم رموز المقاومة في ذكرى استشهادهم خطوة معنوية واجبة، تحمل رسالة تضحية وفداء وتستحضر تاريخاً طويلاً من الصمود في وجه الاحتلال. هذا الفريق شدّد على أن ما جرى ليس استفزازاً بل تحيةً للشهداء ولدمائهم التي روت أرض لبنان.
في المقابل، رأى معارضون أن ما حصل يضرب فكرة العيش المشترك في بيروت، العاصمة التي يُفترض أن تبقى مدينة لكل اللبنانيين. بالنسبة إليهم، وضع صور حزبية على معلم وطني بحجم الروشة يشكل استفزازاً لشريحة كبيرة من سكان العاصمة، ويحوّل رمزاً جامعاً إلى أداة للتفرقة.
بين الاعتزاز والاعتراض
على المستوى الشعبي، انقسمت ردود الفعل أيضاً. البعض احتفى بالمبادرة ورأى فيها تجسيداً للتاريخ النضالي للمقاومة، فيما عبّر آخرون عن غضبهم معتبرين أن بيروت لم تعد تحتمل المزيد من الانقسامات الرمزية بعد سنوات من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أبعد من لحظة رمزية
القضية أبعد من مجرد إضاءة صخرة. هي تعكس جوهر المأزق اللبناني: الصراع المستمر بين مشروع الدولة ومشروع المقاومة، بين رمزية الوحدة الوطنية ورمزية الحزب. فما يُطرح في العلن على شكل جدل حول الإذن القانوني أو البُعد الرمزي، يخفي في جوهره سؤالاً أعمق: من يملك الفضاء العام؟ وهل يمكن أن يبقى لبنان قادراً على حماية معالمه الوطنية من أن تتحول إلى أدوات في الصراع السياسي؟
إضاءة صخرة الروشة تحولت إلى أكثر من مبادرة رمزية. إنها مرآة تعكس واقع الانقسام اللبناني، حيث يتداخل القانوني بالسياسي، والرمزي بالشعبي. ومع كل حدث مشابه، يتأكد أن المعركة ليست على صخرة أو صورة فحسب، بل على هوية العاصمة نفسها: هل تبقى بيروت مدينة لكل اللبنانيين، أم تتحول إلى مساحة مفتوحة لصراعات لا تنتهي؟
صخرة الروشة لم تكن مجرد معلم طبيعي يزيّن شاطئ بيروت، بل ارتبطت بتاريخ المدينة ورمزيتها الوطنية منذ عقود. هذه الكتلة الصخرية العملاقة الواقعة في البحر، تحولت إلى أيقونة في الذاكرة الجماعية اللبنانية، إذ أصبحت رمزاً للصمود والجمال، ومقصداً للسياح واللبنانيين على حد سواء.
في الوجدان الشعبي، ارتبطت الروشة بمناسبات وطنية وسياسية مختلفة. خلال فترات الأزمات الكبرى، كانت محيطها مسرحاً للتجمعات والاحتجاجات والأنشطة الرمزية، ما جعلها مساحة مفتوحة للتعبير العام. وقد استخدمت في مراحل معينة لإطلاق رسائل سياسية أو وطنية، سواء عبر فعاليات فنية أو مبادرات احتجاجية.
لكن في كل مرة كانت الروشة تُستَخدم رمزياً، كانت تثير الجدل: بين من يعتبرها رمزاً جامعاً يجب تحييده عن الاستقطاب السياسي، وبين من يرى أن رمزيتها تمنحها قيمة إضافية لأي فعل احتجاجي أو تكريمي. وهذا ما يجعل كل مبادرة ترتبط بها محمّلة بأبعاد تتجاوز طبيعتها الجغرافية، لتتحول إلى ساحة صراع على هوية بيروت ومعناها.