دخل لبنان في سبتمبر (أيلول) 2024 واحدة من أعنف مراحل الصراع مع إسرائيل منذ عقود. ففي غضون أسابيع قليلة، تحوّل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية إلى مسرح لضربات غير مسبوقة استهدفت البنية العسكرية لـ«حزب الله» وقياداته العليا. وبين تفجيرات غامضة أصابت أجهزة الاتصال، واغتيالات مركزة طالت الصف الأول للحزب، وغارات إسرائيلية واسعة النطاق تسببت في موجات نزوح هائلة، بدا المشهد وكأنه «طوفان خسائر» يهدد مستقبل الحزب كقوة مسلحة إقليمية. هذا التقرير يستعرض، في سرد زمني وتحليل موسع، أبرز أحداث ذلك الشهر المفصلي وما أعقبه من تداعيات.
اغتيال فؤاد شكر: بداية الانحدار
في 30 يوليو 2024، باغتت إسرائيل الحزب بضربة نوعية في الضاحية الجنوبية أسفرت عن اغتيال رئيس أركانه فؤاد شكر، أحد أبرز العقول العسكرية. شكّل هذا الاغتيال نقطة انطلاق لمسار تصاعدي من الاستهدافات النوعية، إذ فقد الحزب الرجل الذي تولى تنسيق عملياته مع الحرس الثوري الإيراني وسوريا. كان شكر يمثل همزة الوصل بين القيادة المركزية والعمليات الميدانية، ومع غيابه بدت البنية العملياتية للحزب أمام اختبار صعب.
17 سبتمبر: انفجار «البيجر»
عند السابعة صباحًا، دوّت سلسلة انفجارات متزامنة في لبنان وسوريا استهدفت أجهزة النداء (البيجر) الخاصة بمقاتلي الحزب. التحقيقات أشارت إلى اختراق تقني واسع النطاق سمح لإسرائيل بزرع برمجيات متفجرة داخل الأجهزة. الحصيلة كانت ثقيلة: عشرات القتلى وأكثر من 2700 جريح، بينهم مدنيون. بدا هذا اليوم علامة فارقة، إذ لم يسبق أن تمكنت إسرائيل من توجيه ضربة تقنية–أمنية بهذا الحجم، ما كشف هشاشة النظام الداخلي للحزب.
18 سبتمبر: موجة ثانية من التفجيرات
بعد 24 ساعة فقط، تكررت المأساة بانفجار أجهزة اتصال لا سلكية تابعة للحزب. سقط أكثر من 30 قتيلًا في الموجة الثانية. الرسالة الإسرائيلية كانت واضحة: القدرة على الاختراق الأمني ليست عابرة، بل متواصلة ومنهجية. أدرك الحزب أن البنية الإلكترونية لأنظمته لم تعد محصنة، وأن المعركة دخلت مرحلة جديدة تتجاوز الطائرات والصواريخ إلى حرب سيبرانية–تقنية.
20 سبتمبر: استهداف «قوة الرضوان»
في ضربة أخرى، استهدفت غارة إسرائيلية اجتماعًا مغلقًا لقيادات «قوة الرضوان»، النخبة العسكرية المكلفة بمهام التوغل في الجليل. النتيجة كانت مقتل 16 قائدًا ميدانيًا، بينهم إبراهيم عقيل وأحمد وهبي. هذه الضربة اعتُبرت من أخطر الضربات النوعية، إذ أدت إلى فقدان الحزب نخبة ضباطه الأكثر تدريبًا وخبرة. عسكريًا، بدت إسرائيل وكأنها تسعى إلى «إفراغ» القوة الخاصة من رأسها القيادي لتجميد قدرتها على المبادرة.
23 سبتمبر: اليوم الأكثر دموية
في هذا اليوم، شنّت إسرائيل أعنف حملة جوية منذ حرب 2006، استهدفت نحو 1600 هدف في الجنوب والبقاع. الحصيلة: أكثر من 700 قتيل، ونصف مليون نازح في يوم واحد. الطرق الرئيسية المؤدية إلى بيروت امتلأت بآلاف السيارات، والمشهد كان أقرب إلى نزوح جماعي شبيه بالحرب الأهلية. وصفت مصادر أممية اليوم بأنه «الأكثر دموية في تاريخ لبنان الحديث». الرسالة الإسرائيلية هنا تجاوزت البعد العسكري إلى «كسر بيئة الحزب»، عبر الضغط على الحاضنة الشعبية وإغراقها في مأساة إنسانية.
25–27 سبتمبر: اغتيال نصر الله
بعد يومين من محاولة فاشلة لاستهدافه، اغتيل حسن نصر الله في 27 سبتمبر خلال غارات على مبانٍ في الضاحية الجنوبية. الحدث شكّل صدمة مدوية. نصر الله لم يكن مجرد قائد عسكري، بل رمز سياسي وديني وإقليمي. باغتياله، بدا الحزب أمام فراغ قيادي غير مسبوق. وفي الضربة نفسها، قُتل قائد منطقة الجنوب علي كركي، إلى جانب قيادات عسكرية إيرانية، بينهم عباس نيلفوروشان.
28 سبتمبر – 3 أكتوبر: استهداف القيادة البديلة
لم تمنح إسرائيل الحزب فرصة لالتقاط أنفاسه. ففي 28 سبتمبر، اغتالت نبيل قاووق، مسؤول وحدة الأمن الوقائي، بالضاحية الجنوبية. وبعد أيام، في 3 أكتوبر، طالت الضربة هاشم صفي الدين، الذي كان قد عُين أمينًا عامًا بديلًا لنصر الله قبل ثلاثة أيام فقط. بدا واضحًا أن إسرائيل تتبع سياسة «قطع الرأس» بشكل متسلسل، لإفراغ الحزب من أي قيادة بديلة قادرة على إعادة التنظيم السريع.
أكتوبر: التوغلات البرية المحدودة
في مطلع أكتوبر 2024، أعلنت إسرائيل عن «عملية برية مستهدفة»، توغلت خلالها في مناطق جنوبية قبل أن تتراجع لاحقًا إلى خمس نقاط ما زالت تحتلها رغم اتفاق وقف النار في نوفمبر. الهدف المعلن كان إبعاد الحزب عن الحدود، لكن الهدف غير المعلن تمثل في ترسيخ معادلة جديدة: تفوق جوي–بري–أمني، مقابل إضعاف قدرات الحزب على المناورة.
انعكاسات استراتيجية
خسارة القيادة: الحزب فقد، خلال شهرين، أبرز رموزه: نصر الله، صفي الدين، شكر، قاووق، وعشرات من قادة «الرضوان».
انكشاف البنية الأمنية: تفجيرات أجهزة النداء والاتصال أظهرت قدرة إسرائيل على اختراق العمق التكنولوجي.
ضغط على البيئة الحاضنة: نزوح نصف مليون مدني وتدمير أحياء كاملة وضع البيئة الشيعية في مأزق إنساني غير مسبوق.
فراغ سياسي وعسكري: غياب القادة التاريخيين فتح باب التساؤلات حول مستقبل الحزب ودوره في المعادلة الإقليمية.
ما بين يوليو وأكتوبر 2024، عايش «حزب الله» أصعب مراحله منذ تأسيسه. فـ«أيلول الأسود» لم يكن مجرد شهر من الخسائر، بل تحوّل إلى محطة مفصلية قد تعيد رسم معادلات الردع الإقليمي. ومع استمرار إسرائيل في خرق وقف النار واحتلالها نقاطًا جنوبية، تبقى الأسئلة معلقة: هل دخل الحزب مرحلة تآكل بنيوي طويل المدى، أم أن قدرته على إعادة التشكل ستمنحه فرصة للعودة بوجه جديد إلى ساحة الصراع؟