أحمد الشرع بين الرمزية الطائفية والرهان السياسي.. قراءة في جماهيريته لدى السنة السوريين

أماني إبراهيم

2025.09.24 - 10:26
Facebook Share
طباعة

منذ وصول أحمد الشرع إلى سدة الحكم في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ظهرت حالة لافتة من التفاعل الشعبي، خاصة بين قطاعات واسعة من السوريين السنّة في الداخل والخارج. مشاهد الترحيب العاطفي التي رافقت إطلالاته الأولى، سواء في دمشق أو في لقاءاته مع الجاليات السورية في الولايات المتحدة وأوروبا، كشفت عن تعطّش جزء كبير من السوريين إلى قيادة سياسية تنتمي إلى الأغلبية الديموغرافية التي طالما شعرت بالتهميش خلال العقود الماضية.

لكن هذه الجماهيرية لا يمكن قراءتها فقط كاستجابة عاطفية لمرحلة انتقالية حساسة؛ بل هي انعكاس لتراكمات تاريخية عميقة في الوعي الجمعي السوري، حيث ظلّ البعد الطائفي، سواء بشكل صريح أو ضمني، حاكمًا لتصورات السياسة والسلطة منذ استيلاء حافظ الأسد على الحكم عام 1970. وبالتالي، فإن الترحيب الشعبي بالشرع، وخاصة من السنة، يثير سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام تحوّل نحو قيادة وطنية جامعة، أم مجرد استبدال لرمزية طائفية برمزية أخرى؟

هذا التقرير يحاول تفكيك أسباب جماهيرية الشرع في الوسط السني السوري، عبر تتبّع مسار صعوده السياسي، والبحث في الخلفيات الطائفية للنظام السوري، وتحليل مواقف الجاليات في الخارج، وصولًا إلى التحديات التي قد تواجه هذه الشعبية في المستقبل.


الشرع وصعوده إلى السلطة

من المعارضة إلى رأس الدولة

أحمد الشرع لم يكن جزءًا من الدائرة الضيقة التي حكمت سوريا لعقود. على العكس، ارتبط اسمه في سنوات ما بعد الثورة بمحاولات إصلاحية من داخل النظام ثم بانشقاقات رمزية عن الأسد، ما أكسبه قبولًا في أوساط المعارضة التقليدية. صعوده إلى رأس السلطة لم يكن نتيجة مسار سياسي تقليدي قائم على الأحزاب أو الانتخابات الحرة، وإنما جاء في سياق انهيار النظام السابق وفراغ السلطة، وهو ما منح حضوره بُعدًا “خلاصيًا” في نظر كثيرين من السوريين.

رمزية الانتماء السني

على المستوى الشعبي، لا يمكن فصل جماهيرية الشرع عن هويته الطائفية. فبعد نصف قرن تقريبًا من حكم عائلة الأسد ذات الخلفية العلوية، جاء انتقال السلطة إلى شخصية سنية ليُقرأ باعتباره “تصحيحًا للتاريخ” أو استعادة لحق الأغلبية. هنا تتداخل السياسة مع علم الاجتماع، إذ يصبح الشرع رمزًا لإعادة التوازن الطائفي، أكثر من كونه مجرد سياسي ببرنامج إصلاحي واضح.

خطاب جامع لكن بلغة حساسة

منذ توليه المنصب، حاول الشرع أن يقدم نفسه كرئيس لكل السوريين، مستخدمًا خطابًا عامًا يتحدث عن المصالحة الوطنية، وبناء الدولة الحديثة، والقطيعة مع الاستبداد. لكنه في الوقت نفسه لم يُخفِ إشارات رمزية موجهة إلى الجمهور السني، سواء عبر التأكيد على احترام “الأغلبية” أو عبر حضوره المتكرر في الفعاليات الدينية الإسلامية. هذه الموازنة بين الخطاب الوطني والرمزية الطائفية جعلته مقبولًا من طيف واسع من السنة، حتى ممن لا يملكون ارتباطًا مباشرًا بالسياسة.

المقارنة مع الأسد

جزء أساسي من شعبية الشرع بين السنة يقوم على المقارنة مع سلفه. فبينما ارتبط اسم الأسد بالدمار والحرب والتهجير، ظهر الشرع كشخصية بديلة قادرة على إنهاء عهد “الأقلية المهيمنة”. هذا البعد النفسي كان له تأثير كبير في تعزيز صورة الشرع كمنقذ، حتى لو لم تكن سياساته العملية قد تبلورت بعد.


الطائفية كعدسة تفسير للسياسة السورية

الطائفية كإطار لفهم السلطة في سوريا

منذ منتصف القرن العشرين، لعب البعد الطائفي دورًا محوريًا في تشكيل بنية الحكم في سوريا. فبعد الانقلابات العسكرية المتكررة التي طبعت الحياة السياسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، جاء انقلاب "الحركة التصحيحية" عام 1970 بقيادة حافظ الأسد ليؤسس لمرحلة جديدة. لم يكن الأسد الأول في استخدام الطائفة كأداة للسلطة، لكنّه كان الأنجح في تحويلها إلى ركيزة بنيوية للنظام. فقد اعتمد على أبناء الطائفة العلوية في المناصب الأمنية والعسكرية الحساسة، ونسج تحالفات مع أقليات أخرى، بينما أبقى الأغلبية السنية في موقع المراقب أو الموظف العادي، دون تمكينها من السيطرة على أدوات القوة الحقيقية.

خطاب "حماية الأقليات"

تميّز حكم الأسد الأب بترويج سردية تقوم على "حماية الأقليات" في مواجهة ما كان يُصوَّر دائمًا كـ"تهديد سني إسلامي". هذا الخطاب لم يكن يعبّر فقط عن هواجس الأقلية العلوية نفسها، بل كان وسيلة لإقناع الأقليات المسيحية والدرزية والإسماعيلية بضرورة الاصطفاف خلف النظام، تحت شعار أن البديل سيكون "حكم الأغلبية السنية" بما يعنيه من إقصاء أو تهديد وجودي. هذه السردية رسّخت في الوعي الجمعي السوري معادلة سياسية مشوّهة: النظام هو حامي الأقليات، والسنة هم الكتلة التي يجب التحذير منها.

مرحلة بشار الأسد.. تعميق الانقسام

عندما ورث بشار الأسد الحكم عام 2000، حاول في البداية الظهور كرئيس إصلاحي شاب، لكن سرعان ما تحوّلت سياسته إلى إعادة إنتاج منظومة أبيه بطرق أكثر قسوة. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لجأ النظام إلى استدعاء الخطاب الطائفي بأوضح صوره: تصوير الانتفاضة الشعبية على أنها "حرب طائفية" تشنها الأغلبية السنية ضد الأقليات. هذا الخطاب كان له أثر مزدوج: من جهة، عزز تماسك الأقليات خلف النظام خوفًا من البديل، ومن جهة أخرى، عمّق شعور السنة بأنهم ضحايا تهميش تاريخي وهيمنة أقلوية.

الطائفية كعدسة تفسيرية

بالنسبة للسوريين السنة، أصبح من المستحيل تقريبًا فصل تجربتهم السياسية عن هذا الإطار الطائفي. كل حدث، وكل قرار سياسي، كان يُقرأ من زاوية "من يحكم؟ ومن أي طائفة؟". ومع تراكم المظالم – من الاعتقالات التعسفية إلى المجازر، ومن الإقصاء الاقتصادي إلى التهميش السياسي – ترسخت القناعة بأن جوهر المشكلة في سوريا ليس فقط الاستبداد، بل الاستبداد الطائفي. وبالتالي، عندما صعد أحمد الشرع إلى السلطة، كان يُنظر إليه كـ"تصحيح طبيعي" لمسار اختلّ لعقود.

الشرع كـ "رمز للأغلبية"

من هذا المنطلق، لم يكن الشرع بحاجة إلى تقديم برنامج سياسي متكامل كي يحظى بالقبول. مجرد كونه رئيسًا سنيًا كفيلٌ بتغيير المعادلة الرمزية: من "حكم الأقلية" إلى "حكم الأغلبية". هذا البعد الرمزي منح الشرع رصيدًا شعبيًا واسعًا بين السنة، حتى قبل أن يثبت قدرته على إدارة الدولة أو مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية. يمكن القول إن جماهيرية الشرع لم تكن نابعة من شخصه فقط، بل من اللحظة التاريخية التي جعلت من انتمائه الطائفي رسالة بحد ذاتها.

نقد هذا المنظور

لكن ثمة إشكالية كبيرة في قراءة السياسة من منظور طائفي بحت. فإذا كانت جماهيرية الشرع تقوم على رمزية الانتماء السني، فهذا يعني أننا أمام إعادة إنتاج للمنطق نفسه الذي حكم سوريا طوال نصف قرن: منطق الطائفة كمعيار للشرعية السياسية. بهذا المعنى، قد تتحول جماهيرية الشرع من فرصة لإعادة بناء دولة المواطنة، إلى فخّ يعيد إنتاج الاستقطاب، ولكن هذه المرة بشكل مقلوب: هيمنة الأغلبية بدل هيمنة الأقلية.


استقبال الجاليات السورية في الخارج

 

من أبرز مظاهر جماهيرية أحمد الشرع بعد وصوله إلى السلطة، الاستقبال الحافل الذي حظي به خلال زياراته إلى الولايات المتحدة وأوروبا. في الجاليات السورية بالخارج، وخصوصًا تلك التي يغلب عليها الطابع السني، تحوّلت لقاءاته إلى مهرجانات مصغّرة عكست حالة من الحماس والارتياح لرحيل النظام السابق وصعود شخصية جديدة تمثل – على الأقل رمزيًا – الأغلبية السكانية في سوريا. صور اللافتات، الهتافات، والأناشيد التي رافقت ظهوره لم تكن مجرد تعبير عن دعم سياسي، بل حملت بعدًا وجدانيًا عميقًا، إذ بدت وكأنها احتفال بـ"عودة الحق لأصحابه".

الجالية السنية في أميركا

لفهم هذه الحماسة، لا بد من التوقف عند طبيعة الجالية السورية في الولايات المتحدة. منذ سبعينيات القرن الماضي، شهدت أميركا موجات متتالية من الهجرة السورية، معظمها من أصول سنية تنتمي إلى الطبقة الوسطى: أطباء، مهندسون، تجار، وطلاب جامعات استقروا هناك لاحقًا. هذه الجالية طوّرت مؤسساتها الخاصة، من مساجد ومراكز إسلامية إلى جمعيات خيرية وشبكات اجتماعية متينة. وعبر العقود، بقيت مرتبطة بالوطن الأم من خلال التبرعات، ورعاية الأقارب، والزيارات الصيفية، والأهم: متابعة الوضع السياسي في سوريا بعين قلقة.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، انخرطت هذه الجالية بشكل واسع في حملات الدعم الإغاثي والسياسي. كثير من الأطباء أسسوا جمعيات لإرسال مساعدات طبية، فيما شارك رجال الأعمال في تمويل مبادرات المعارضة. لكن مع فشل المعارضة في تقديم بديل سياسي واضح، ومع طول أمد الحرب، تسللت مشاعر الإحباط إلى نفوسهم. من هنا، جاء صعود أحمد الشرع كفرصة جديدة لاستعادة الأمل، ولملمة الجراح التي خلّفتها سنوات الصراع.

التفسير العاطفي والديني

جزء من الحماسة للشرع يرتبط بالديناميات الدينية للجاليات السورية. فالكثير من أبناء الجالية ينشطون في المساجد، والجمعيات الإسلامية، ويرون في الشرع "ابن الطائفة" الذي يعيد الاعتبار للسنة بعد عقود من التهميش. في الخطاب الشعبي داخل هذه المجتمعات، يُقدَّم الشرع أحيانًا بوصفه "الرئيس السني" الذي يعيد التوازن إلى سوريا. هذه المقاربة الدينية/الطائفية ساعدت في تضخيم صورته، وأعطته مكانة أبعد من مجرد زعيم سياسي.

المصالح المادية والاقتصادية

لكن لا يمكن اختزال جماهيرية الشرع في البعد الطائفي وحده. ثمة مصالح مادية واقتصادية تدفع الجالية لدعمه. فالكثير من رجال الأعمال السوريين في أميركا وأوروبا يرون في صعوده فرصة لإعادة فتح قنوات الاستثمار مع سوريا، والمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار. هؤلاء كانوا مهمَّشين خلال فترة الأسد، التي احتكر فيها رجال أعمال مقربون من العائلة الحاكمة الاقتصاد. ومع قدوم الشرع، باتوا يأملون باستعادة مواقعهم الاقتصادية وفتح الأبواب أمام استثمارات جديدة.

انعكاس مرحلة الأسد

الحماسة الشعبية للشرع في الخارج لا يمكن فهمها دون مقارنتها بمرحلة الأسد. فبالنسبة للجاليات السورية السنية، كان الأسد رمزًا لكل ما هو سلبي: الاستبداد، الفساد، الطائفية، والقمع. سقوطه لم يُقرأ فقط كانتصار سياسي، بل كتحرر جماعي من عقدة تاريخية. ولذلك، بدا استقبال الشرع وكأنه نوع من الاحتفال بانتهاء عصر مظلم، وليس فقط ترحيبًا برئيس جديد.

الأصوات المعارضة داخل الجالية

مع ذلك، لا يخلو المشهد من أصوات معارضة. هناك شريحة من السوريين في الخارج ترى في الشرع مجرد نسخة جديدة من الديكتاتورية، لكنها ملوّنة بالهوية السنية هذه المرة. هؤلاء يحذّرون من الانجرار وراء الحماسة العاطفية، مؤكدين أن الشعب السوري لا يحتاج رئيسًا "من طائفته"، بل رئيسًا يبني دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع. ورغم أن هذه الأصوات أقلية مقارنة بالموجة العاطفية الداعمة، إلا أنها تمثل تيارًا مهمًا قد يلعب دورًا في المستقبل، خاصة إذا فشل الشرع في تلبية تطلعات أنصاره.

الشرع كـ"ضمانة" للجالية

في النهاية، يمكن القول إن الجاليات السورية السنية في الخارج تنظر إلى أحمد الشرع كضمانة ضد عودة حكم الأقليات. هو بالنسبة لهم ليس فقط رئيسًا انتقاليًا، بل تجسيدًا لفكرة "الأغلبية أخيرًا في موقع القرار". هذا التصور يمنحه جماهيرية استثنائية بين تلك الجاليات، لكنه في الوقت نفسه يضع على عاتقه مسؤولية ضخمة: أن يثبت أن رئاسته ليست مجرد انتصار رمزي لطائفة، بل بداية فعلية لبناء دولة جديدة.


بين الولاء الطائفي والبحث عن دولة القانون

معضلة الولاء الطائفي

أحمد الشرع، منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم، وجد نفسه أمام معضلة مزدوجة: من جهة، قاعدة جماهيرية سنية ترى فيه "المحرر" و"المنتصر للطائفة"، ومن جهة أخرى، نخب معارضة ومجتمعات مدنية تطالب بدولة قانون ومواطنة. هذه الثنائية تعكس مأزق السياسة السورية منذ عقود: كيف يمكن تجاوز الطائفية كأداة للشرعية وبناء سلطة سياسية عابرة للهويات الضيقة؟

الشرعية عبر الطائفة

لا يمكن إنكار أن الشرع بنى جزءًا كبيرًا من شرعيته على الهوية السنية. في خطاباته الأولى، لم يخفِ هذا البعد، بل استثمر فيه، مُصوِّرًا نفسه كرمز لإنهاء هيمنة "حكم الأقلية". هذا الخطاب وجد صدى واسعًا بين قطاعات واسعة من السوريين الذين رأوا في رحيل الأسد سقوطًا لرمز "الطغيان العلوي"، وبداية لاستعادة "حق الأغلبية".
لكن في الوقت ذاته، هذا النمط من الخطاب عمّق الانقسام، إذ قرأته الأقليات على أنه تهديد مباشر، ما جعلها تتقوقع أكثر حول هواجسها الأمنية والسياسية.

البحث عن دولة القانون

على النقيض، برزت أصوات أخرى – أقل عددًا وأكثر وعيًا – ترى أن المشكلة في سوريا ليست طائفية بقدر ما هي بنيوية: استبداد، غياب مؤسسات، اقتصاد ريعي قائم على المحسوبية. هؤلاء يحاججون بأن تغيير هوية الرئيس من علوي إلى سني لا يعني شيئًا إذا استمرت البنية السلطوية ذاتها. الشرع بالنسبة لهم ليس خلاصًا، بل اختبارًا جديدًا: هل يستطيع أن يقود عملية انتقال نحو دولة القانون؟ أم أنه سيعيد إنتاج الديكتاتورية بوجه جديد؟

خطاب مزدوج

المفارقة أن الشرع نفسه يستخدم خطابًا مزدوجًا. فعلى المستوى الشعبي، يلمّح إلى الهوية السنية كجزء من شرعيته، ليكسب حماسة الجماهير. أما في المحافل الدولية أو في مخاطبة النخب، فيتحدث عن المواطنة والديمقراطية ودولة المؤسسات. هذا التباين يعكس محاولته السير بين خطين متوازيين: إرضاء جمهوره الداخلي الذي يريد "انتصارًا طائفيًا"، وطمأنة المجتمع الدولي الذي يخشى من تحوّل سوريا إلى دولة دينية أو انتقامية.

دروس من تجربة الأسد

التاريخ القريب يقدم عبرة مهمة. حافظ الأسد، ثم بشار الأسد، قدما نفسيهما كحماة للأقليات في وجه "الأكثرية السنية". هذا الخطاب الطائفي كان أداة لتبرير حكمهما وتثبيت شرعيتهما. لكن في النهاية، انهار النظام تحت وطأة ثورة شعبية وحرب مدمرة. الشرع، إن أعاد إنتاج نفس المنطق لكن بوجه معاكس، سيكون معرضًا لذات المصير.
الدروس واضحة: لا يمكن بناء استقرار دائم على قاعدة طائفية. ما لم يتم الانتقال نحو دولة قانون ومؤسسات، سيظل الحكم هشًا، قائمًا على توازنات هشة وعرضة للانفجار في أي لحظة.

الشرع والفرصة الضائعة

حتى الآن، يبدو أن الشرع لم يحسم خياره. أنصاره يرونه "زعيمًا سنيًا صلبًا"، بينما معارضوه يتهمونه بأنه "ديكتاتور بلباس جديد". وبين الموقفين، تقف سوريا أمام فرصة تاريخية: إما أن ينجح الشرع في كسر الحلقة الطائفية وفتح الباب أمام مصالحة وطنية حقيقية، أو أن يكرر أخطاء أسلافه ويغرق البلد مجددًا في صراع لا نهاية له.

معادلة صعبة

المعادلة التي يواجهها الشرع معقدة:

إذا اعتمد بالكامل على الشرعية الطائفية، فإنه يضمن دعمًا شعبيًا واسعًا مؤقتًا، لكنه يخسر شرائح واسعة من الأقليات ويضع سوريا على سكة انقسامات خطيرة.

وإذا تبنى خطابًا وطنيًا جامعًا، فإنه يخاطر بخسارة جزء من قاعدته الشعبية السنية التي ترى فيه رمزًا للانتصار الطائفي.


هذا التوازن الهش هو ما يجعل جماهيرية الشرع بين السنة سلاحًا ذا حدين: فهي مصدر قوته، لكنها في الوقت ذاته قد تصبح نقطة ضعفه إن لم يحسن إدارتها.

الجماهيرية الطائفية بين الفرصة والمأزق

جماهيرية الرئيس السوري أحمد الشرع لدى السنة السوريين ليست مجرد تعبير عن حب شخصي أو رضى عن سياسات محددة، بل هي انعكاس لتراكمات تاريخية وسياسية عميقة. سنوات حكم الأسد الأب والابن رسخت في الوعي الجمعي السوري فكرة أن السلطة ترتبط بالهوية الطائفية، وأن الأغلبية السنية كانت مهمشة في معادلة الحكم. في هذا السياق، صعود شخصية سنية مثل الشرع حُوّل تلقائيًا إلى رمز للانتصار للأغلبية، وهو ما يفسر حماسة الجاليات السورية في الداخل والخارج تجاهه.

لكن هذه الشعبية الطائفية تحمل مخاطر كبيرة. إذ يمكن أن تتحول قاعدة الشرع من مصدر قوة إلى فخّ سياسي، إذا لم ينجح في بناء دولة مؤسسات تتجاوز الانتماءات الضيقة. الجماهيرية الحالية، المبنية جزئيًا على رمزية الانتماء السني، توفر له دعمًا شعبيًا واسعًا، لكنها في الوقت ذاته قد تُعقّد أي محاولة لإرساء دولة القانون والمواطنة.

التحدي الأكبر يكمن في الموازنة بين الخطاب الطائفي المطمئن للقاعدة الشعبية وبين خطاب الدولة الوطنية الذي يطمئن الأقليات ويطمح لمستقبل شامل. إذا نجح الشرع في هذه الموازنة، فقد يضع الأساس لمرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والاجتماعي في سوريا. وإذا فشل، فسيجد نفسه أمام أزمة مركبة، تجمع بين فقدان الدعم الشعبي وتوتر العلاقات الطائفية، مع احتمال عودة الانقسامات التي عانت منها البلاد لعقود.

في النهاية، جماهيرية الشرع بين السنة ليست مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل مؤشر على أن الطائفية ما زالت تشكّل البعد الأكثر تأثيرًا في فهم السوريين للسلطة والشرعية. أمامه فرصة تاريخية لإعادة تشكيل هذا الفهم، وتحويل الدعم الطائفي إلى مشروع وطني جامع، أو أن يكرر الأخطاء نفسها التي قضت على نظام سلفه، محولة الرمزية الطائفية من مصدر قوة إلى عبء ثقيل على مستقبل سوريا.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 9