في لحظة فارقة من تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليعلن بصوت واضح أن إسرائيل لم تعد فقط غارقة في الدم الفلسطيني، بل باتت تدمر صورتها بالكامل أمام الرأي العام العالمي. لم يكن حديث ماكرون مجرد تصريح عابر في مقابلة تلفزيونية، بل رسالة سياسية مشحونة بدلالات استراتيجية؛ فهي المرّة الأولى منذ سنوات طويلة التي يخرج فيها زعيم غربي من الصف الأول ليضع النقاط على الحروف: ما تفعله إسرائيل في غزة "فشل ذريع" و"خطأ هائل"، بينما الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو السبيل الوحيد لعزل حركة حماس وإضعاف حجج إسرائيل التي لا تتوقف عن تصوير نفسها ضحية.
إنها لحظة تعكس انقلابًا في المزاج الغربي الذي طالما منح إسرائيل حصانة سياسية، لكنها اليوم تجد نفسها في عزلة غير مسبوقة، فيما تتسع دوائر الاعتراف الدولي بشرعية النضال الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة.
انهيار صورة إسرائيل في الغرب
حديث ماكرون لا يمكن فصله عن الواقع الميداني في غزة. الصور القادمة من القطاع المحاصر لم تعد تُظهر سوى مجازر جماعية، أحياء كاملة سويت بالأرض، مئات آلاف المهجرين، وأطفال يتضورون جوعًا وسط أنقاض منازلهم. هذه المشاهد اخترقت جدران الإعلام الغربي الموجه، ووصلت مباشرة إلى الرأي العام الأوروبي والأميركي. بات من الصعب تبرير القصف الإسرائيلي على أنه "دفاع عن النفس"، وهو ما أكده ماكرون حين قال بوضوح إن "النتائج الأمنية التي حققتها إسرائيل تنقلب عليها بالكامل".
بكلمات أخرى، العملية العسكرية الإسرائيلية تحولت من "ورقة ضغط" إلى "عبء أخلاقي"، وصارت سببًا مباشرًا في تآكل صورة إسرائيل كدولة "ديمقراطية" في الغرب.
العقوبات تلوح في الأفق
إشارة ماكرون إلى إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل لم تكن تهديدًا دبلوماسيًا عابرًا. ففرنسا، العضو الدائم في مجلس الأمن، تدرك جيدًا أن تكرار الجرائم في غزة يضع أوروبا كلها في موضع المتهم بالتواطؤ. تل أبيب التي طالما احتمت بالعواصم الغربية تواجه اليوم خطر فرض عزلة اقتصادية مشابهة لما واجهته أنظمة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وإذا تحركت باريس بالفعل، فإن ذلك سيشجع دولًا أخرى مثل إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا، التي سبق وأن أبدت مواقف مؤيدة لفلسطين، على اتخاذ خطوات مشابهة. العقوبات لم تعد احتمالًا نظريًا بل ورقة ضغط حقيقية تهدد مستقبل العلاقات الاقتصادية والسياسية لإسرائيل مع الاتحاد الأوروبي.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية كصفعة مضادة
تصريح ماكرون بأن الاعتراف بدولة فلسطينية هو "أفضل وسيلة لعزل حماس" جاء كإعادة صياغة للمعادلة بالكامل. ففي حين تواصل إسرائيل محاولاتها لتصوير حماس كتهديد وجودي، يطرح الرئيس الفرنسي مسارًا معاكسًا: بدلًا من شيطنة المقاومة، يمكن حرمانها من مبرراتها عبر الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
هذا الطرح يضعف الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن العالم يرفض حماس لأنها "إرهابية"، بينما الواقع يكشف أن ما يمنح الحركة قوتها الشعبية هو غياب الدولة الفلسطينية واستمرار الاحتلال. إن أي خطوة أوروبية نحو الاعتراف بالدولة تعني ضرب العمق السياسي الإسرائيلي وإعادة توجيه البوصلة نحو حل الدولتين.
صدام مع نتنياهو
ماكرون كشف أن إسرائيل رفضت استقباله قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذه الواقعة تكشف حجم القلق داخل حكومة نتنياهو من أي زيارة قد تحرجها دبلوماسيًا. تل أبيب التي تسعى لترويج حربها كـ"ضرورة أمنية" لا تستطيع مواجهة خطاب فرنسي مباشر أمام شعبها وإعلامها.
لكن رغم الرفض، أصر ماكرون على مواصلة العمل مع نتنياهو، في إشارة إلى أنه لا يزال يرى إمكانية للضغط الدبلوماسي من الداخل، وإن كان ذلك محفوفًا بالمخاطر. من الواضح أن باريس باتت في موقع "المحامي المضاد" داخل الصف الغربي، وهو ما يشكل منعطفًا تاريخيًا في علاقات أوروبا بإسرائيل.
حماس في قلب المعادلة
منذ اندلاع الحرب الأخيرة، حاولت إسرائيل إقناع العالم بأن "القضاء على حماس" هو الهدف النهائي. لكن خطاب ماكرون ينسف هذا الادعاء من أساسه: "حماس تريد تدميركم، لكن اعترافنا بدولة فلسطينية هو السبيل لعزلها". بمعنى آخر، ما لم يتحقق حلم الدولة الفلسطينية، ستظل حماس وغيرها من فصائل المقاومة هي الممثل الوحيد لإرادة الفلسطينيين.
إنه طرح يكرّس شرعية المقاومة ويؤكد أن إسرائيل هي التي تمنح حماس القوة من خلال استمرار الاحتلال. فحين يُحرم الفلسطيني من دولته، يصبح حمل السلاح خيارًا وحيدًا، وحين تُقصف غزة يوميًا، تتحول المقاومة إلى واجب وطني لا إلى خيار سياسي.
دلالات دولية
كلمات ماكرون لم تأتِ من فراغ، بل تعكس تحولات أعمق في المواقف الدولية. الصين وروسيا رفعتا صوتهما ضد إسرائيل، فيما باتت أميركا تعاني من انقسامات داخلية حادة بين البيت الأبيض الداعم بلا تحفظ وتيارات ديمقراطية وليبرالية بدأت ترى في الدعم المطلق لتل أبيب انتحارًا سياسيًا.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أعادت تصريحات الرئيس الفرنسي الروح إلى الخطاب العربي الداعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية كمدخل لإنهاء الحرب، بدلًا من الغرق في متاهات "صفقات أمنية" لا تحقق شيئًا للفلسطينيين. باختصار، فرنسا أعادت وضع الملف الفلسطيني على الطاولة الدولية بعد أن حاولت إسرائيل دفنه تحت ركام غزة.
من كامب ديفيد إلى غزة
للتصريحات الفرنسية الحالية جذور تاريخية مهمة. فمنذ اتفاقية كامب ديفيد 1978، حرصت أوروبا على البقاء في الظل خلف واشنطن، مكتفية بدور الممول الاقتصادي للسلطة الفلسطينية. لكن التغيرات الميدانية في غزة خلال العقدين الأخيرين، وصعود حماس كقوة سياسية وعسكرية، فرضت واقعًا جديدًا.
اليوم، لم تعد أوروبا قادرة على تجاهل أن "حل الدولتين" يتآكل، وأن إسرائيل بتركيبتها اليمينية المتطرفة تسعى لدفنه نهائيًا. من هنا، يصبح الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس مجرد خيار سياسي بل ضرورة استراتيجية لإنقاذ ما تبقى من فرص السلام.
إسرائيل بين العزلة والإنكار
رغم التحذيرات، تواصل الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو إنكار الواقع. فبدلًا من مراجعة سياساتها، تمضي في المزيد من التوسع الاستيطاني، وتشديد الحصار على غزة، وإطلاق تصريحات متشددة من وزرائها الداعين إلى "ترانسفير" الفلسطينيين. هذه السياسات تجعل إسرائيل في عزلة متزايدة حتى من أقرب حلفائها.
ولعل أخطر ما تواجهه تل أبيب اليوم هو فقدانها لسلاح "التعاطف الغربي". فبعد عقود من تصوير نفسها كضحية، تحولت إلى المعتدي الأول، وصارت صور الضحايا الفلسطينيين أقوى من أي خطاب دعائي.
تصريحات ماكرون تمثل نقطة انعطاف في السردية الدولية للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. إنها لا تعكس فقط أزمة صورة إسرائيل عالميًا، بل تكشف أيضًا عن بداية تبلور موقف غربي أكثر جرأة في مواجهة تل أبيب. الاعتراف بالدولة الفلسطينية لم يعد شعارًا إنشائيًا بل خيارًا سياسيًا جادًا يتقدم الصفوف.
بالنسبة للفلسطينيين، هذه لحظة لإعادة طرح قضيتهم بقوة على الطاولة الدولية، مستفيدين من الانهيار الأخلاقي لإسرائيل. وبالنسبة لحماس وفصائل المقاومة، فإن الموقف الفرنسي يعزز قناعتهم بأن الكفاح المسلح والسياسي معًا قادران على فرض معادلات جديدة.
في النهاية، يبقى السؤال: هل ستجرؤ أوروبا على كسر التابوهات التي فرضتها واشنطن لعقود والاعتراف بدولة فلسطينية؟ أم أن تصريحات ماكرون ستظل مجرد صرخة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية؟
الأكيد أن إسرائيل، التي حاولت عزل الفلسطينيين، تجد نفسها اليوم هي المعزولة، فيما المقاومة والدولة الفلسطينية تقتربان أكثر من أي وقت مضى من قلب المشهد الدولي.