بعد أشهر من الاضطرابات الأمنية في السويداء والشدّ والجذب السياسي على طاولة المفاوضات، أعلنت وزارة الخارجية السورية عن التوصل إلى خارطة طريق شاملة للحل في المحافظة الجنوبية، وذلك عقب لقاء ثلاثي في دمشق ضم وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ونظيره الأردني أيمن الصفدي، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس براك.
الاجتماع الذي انعقد في 16 أيلول، جاء استكمالاً لجولتي مباحثات سابقتين في عمّان بتاريخ 19 تموز و12 آب الماضيين، ركزتا على تثبيت وقف إطلاق النار وفتح أفق للتسوية السياسية والاجتماعية. وبحسب البيان الصادر عن الخارجية السورية، فإن الاتفاق يمثل “إرادة مشتركة” بين دمشق وعمّان وواشنطن للمضي نحو استقرار الجنوب السوري، ومعالجة جراح السويداء على أسس العدالة والصلح المجتمعي.
المبادئ العامة للخارطة
أولى البنود الأساسية في الوثيقة شددت على أن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا، وأن أبناءها مواطنون متساوون بالحقوق والواجبات. وجرى التأكيد أن إعادة دمج المحافظة في مؤسسات الدولة يتطلب خطوات متدرجة لبناء الثقة بين الحكومة والسكان.
كما نص الاتفاق على الالتزام بالعمل المشترك للحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها، ودعم عملية سياسية “شاملة بقيادة سورية”، تعكس التعددية الاجتماعية وتشارك فيها جميع المكونات، بالتوازي مع تعزيز مكافحة الإرهاب والتطرف وإنهاء الانقسامات الداخلية.
إجراءات عاجلة على الأرض
خارطة الطريق تضمنت رزمة من الخطوات التنفيذية العاجلة، أبرزها:
دعوة الحكومة السورية لجنة التحقيق الدولية المستقلة للتحقيق في أحداث السويداء ومحاسبة المتورطين وفق القوانين الوطنية.
استمرار تدفق المساعدات الإنسانية والطبية إلى المحافظة بالتنسيق مع الأمم المتحدة، مع ضمان عودة الخدمات الأساسية بدعم من الأردن والولايات المتحدة.
نشر قوات شرطية مؤهلة على طريق السويداء–دمشق لتأمين التنقل والتجارة، وسحب المسلحين المدنيين من الحدود واستبدالهم بقوات نظامية.
دعم جهود الصليب الأحمر الدولي للإفراج عن جميع المحتجزين والمخطوفين واستكمال عمليات التبادل.
عقد اجتماعات مصالحة محلية تجمع ممثلين عن الدروز والمسيحيين والسنة والعشائر البدوية، بدعوة أردنية وبالتنسيق مع دمشق.
إطلاق خطط لإعادة إعمار القرى المتضررة، وتأمين تمويل أميركي–أردني لهذه المشاريع.
سنّ تشريعات تجرّم خطاب الكراهية والطائفية، بدعم قانوني من واشنطن وعمّان، لتعزيز “سردية وطنية” قائمة على الوحدة والمساواة.
الترتيبات الأمنية والإدارية
على الصعيد الأمني، تنص الخارطة على إنشاء قوة شرطية محلية تضم جميع مكونات السويداء، بقيادة شخصية من أبناء المحافظة تعينها وزارة الداخلية السورية، وذلك لطمأنة الأهالي على حياديتها. كما تقرر تشكيل مجلس محافظة يمثل مختلف الأطياف لقيادة جهود المصالحة والتواصل مع الحكومة المركزية.
الخطة شددت كذلك على ضرورة إنهاء أي تدخل خارجي في شؤون السويداء، وتسهيل عمل لجنة التحقيق المستقلة من خلال توفير الأدلة والشهادات ومقاطع المراقبة اللازمة لضمان المساءلة.
البعد الإقليمي: التفاهمات مع إسرائيل
البيان الصادر عن الخارجية السورية أشار بوضوح إلى أن الولايات المتحدة ستتشاور مع دمشق حول تفاهمات أمنية مع إسرائيل تخص الجنوب السوري، تراعي “الشواغل الأمنية المشروعة للطرفين” مع الحفاظ على السيادة السورية. الأردن بدوره سيلعب دور الوسيط والداعم لهذا المسار.
وبحسب وكالة “رويترز”، فإن واشنطن تسعى لتحقيق تقدم ملموس قبل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك نهاية أيلول، بما يتيح للرئيس الأميركي الإعلان عن “اختراق” سياسي. ووفق المصادر، فإن سوريا طرحت مقترحات تركز على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها مؤخراً وإعادة العمل بمنطقة الفصل منزوعة السلاح المقررة عام 1974، مقابل وقف الغارات الجوية والتوغلات البرية.
إلا أن ملف الجولان المحتل لم يُبحث بعمق في المحادثات. مصادر سورية قالت إن هذه القضية “مؤجلة للمستقبل”، فيما كشف مسؤول إسرائيلي لـ”رويترز” أن تل أبيب طرحت على الوسيط الأميركي مقايضة انسحابها من الجنوب مقابل التنازل عن الجولان، وهو ما وصفته المصادر بأنه “غير قابل للتنفيذ” لأنه يعني نهاية أي شرعية للنظام الانتقالي في دمشق.
تصريحات الأطراف الثلاثة
في المؤتمر الصحفي المشترك بدمشق، أكد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن الاتفاق يشكل “خارطة طريق تكفل الحقوق وتدعم العدالة وتعزز الصلح المجتمعي وتفتح الطريق أمام تضميد الجراح”. ولفت إلى أن الخطوات المتفق عليها تشمل المحاسبة القضائية، وتعويض المتضررين، وعودة النازحين، وإعادة الخدمات الأساسية.
من جانبه، شدد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على أن “أمن جنوب سوريا امتداد لأمن الأردن”، وأن “سوريا الآمنة والمستقرة ضمان لاستقرار المنطقة”. وأكد رفض بلاده لأي محاولات لتقسيم سوريا، محملاً إسرائيل المسؤولية عن السعي لزرع الانقسام.
أما المبعوث الأميركي توماس براك، فأشاد بجهود دمشق وعمّان قائلاً: “تعاونّا للتوصل إلى خارطة طريق حول السويداء، والحكومة السورية اتخذت خطوات عملية لضمان السلم الأهلي”. وأضاف أن الاستقرار في سوريا يتحقق عبر “بناء الثقة والأمل والتسامح بين أبناء الوطن”.
الدلالات السياسية
داخلياً: تسعى دمشق عبر هذه الخارطة لإعادة دمج السويداء، وإنهاء حالة التوتر التي غذتها مطالب محلية باللامركزية واتهامات بانتهاكات أمنية.
إقليمياً: الأردن يحاول تثبيت حدوده الجنوبية وتحصين أمنه القومي، مستفيداً من دور الوسيط بين دمشق وواشنطن.
دولياً: واشنطن تحرص على أن يُترجم الاتفاق بخطوات عملية تتيح للرئيس الأميركي إعلان إنجاز دبلوماسي في نيويورك، وسط التوترات المستمرة مع إسرائيل وملف الجولان الشائك.
خارطة الطريق المعلنة في دمشق لا تُعد مجرد تفاهم محلي لمعالجة أزمة السويداء، بل هي تسوية ثلاثية ذات أبعاد إقليمية، تتقاطع فيها مصالح دمشق وعمّان وواشنطن، مع إصرار معلن على مواجهة محاولات إسرائيل فرض وقائع جديدة في الجنوب السوري.
ومع انتظار الآلية المشتركة لمراقبة التنفيذ، تبدو الأسابيع المقبلة اختباراً لمدى جدية الأطراف في المضي نحو استقرار حقيقي، يطوي صفحة أحداث السويداء الدامية ويضع الجنوب السوري على سكة تسوية أوسع ترتبط بملف الصراع مع إسرائيل ومستقبل الجولان.