لم تَكُن زيارة نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، على رأس وفد عسكري واقتصادي إلى دمشق ولقاؤه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وعدداً من وزرائه، خطوة بروتوكولية محضة، بقدر ما عكست توجهاً روسياً جديداً لإعادة تثبيت الحضور في الساحة السورية بعد انكفاء نسبي أعقب سقوط النظام السابق. فموسكو، التي اقتصرت في الأعوام الماضية على وجودها في اللاذقية وطرطوس وقاعدة القامشلي في الحسكة، تبدو اليوم بصدد استعادة مواقع نفوذها في الساحل والجنوب والشمال الشرقي.
هذا التوجه أكده سكرتير مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو في حديث إلى وكالة إنترفاكس، حين قال إن «الوضع لا يزال غير مستقر في سوريا، وموسكو مستعدة للعمل على تحقيق الاستقرار». وتشير أوساط سياسية إلى أن روسيا تسعى إلى توظيف شبكاتها الواسعة داخل سوريا لتفادي الفوضى، وإعادة التموضع في مناطق حساسة، بما يعزز قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث.
وبالتوازي مع الداخل السوري، تحاول موسكو الاستفادة من قنواتها المفتوحة مع إسرائيل للعب دور الوسيط بينها وبين تركيا، خصوصاً في ظلّ الاعتراض الإسرائيلي على تمدد النفوذ التركي. وتقول مصادر إن روسيا عرضت على دمشق لعب دور الوساطة مع تل أبيب والمساعدة في إدارة ملف الجنوب السوري، بما يضمن منع إسرائيل من توسيع احتلالها، ويحول دون النزعات الانفصالية في السويداء التي تعاظمت بعد أحداث تموز.
أما في شمال شرق البلاد، فقد عادت الدوريات الروسية الجوية والبرية إلى محافظة الحسكة، بعد سنوات من الانكفاء. فقد نفذت القوات الروسية للمرة الأولى منذ زمن دوريات على امتداد القامشلي والقحطانية والجوادية والمالكية، ترافقها مروحيات تجوب الأجواء. كما شهدت قاعدة القامشلي الروسية نشاطاً متزايداً وتغييرات لوجستية، في ما يُعتقد أنه إعادة تموضع موسعة للوجود الروسي، شملت توسيع المقرات وتجهيز غرف جديدة لاستيعاب مزيد من الجنود.
مصادر ميدانية أكدت أن موسكو زادت عديد جنودها في مناطق سيطرة «قسد» بعد أن كان وجودها مقتصراً على عمق القاعدة. الجنود الروس شوهدوا يتجولون علناً في أسواق القامشلي، في مشهد يوحي بعودة الحياة إلى القاعدة واستعدادها لمرحلة توسع. وبحسب المصدر نفسه، فإن طائرة شحن روسية تهبط بشكل دوري قادمة من قاعدة حميميم، حاملة معدات عسكرية وغذائية ووقوداً لتعزيز البنية اللوجستية في القامشلي.
هذه العودة ليست منعزلة عن سياق إقليمي أوسع، إذ يُرجّح أن تكون موسكو تمهّد لإحياء «اتفاق سوتشي» الموقع بين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، والذي نص على نشر الجيش السوري السابق إلى جانب نقاط مراقبة روسية على الحدود السورية – التركية وتسيير دوريات مشتركة. ووفق مصادر مطلعة، فإن روسيا قد تستأنف قريباً دورياتها على خطوط التماس بين «قسد» و«الجيش الوطني» في رأس العين، وربما تتوسع لاحقاً لتشمل ريفَي الرقة وحلب.
كما يكشف مصدر مطلع أن روسيا احتفظت بعدد من المروحيات القتالية والرادارات وأنظمة الدفاع الجوي في قاعدة القامشلي، معززة حضورها في الفترة الأخيرة، في خطوة يرى مراقبون أنها مقدمة لدور روسي أكثر فاعلية في ضبط التوازنات شمال شرق سوريا، وربما في الوساطة بين الحكومة الانتقالية و«قسد» بموجب اتفاق 10 آذار.
وبذلك، تبدو موسكو عازمة على استعادة موقعها كفاعل أساسي في الملف السوري، عبر مزيج من الحضور العسكري والتحرك السياسي، بما يتيح لها التأثير في ملفات الجنوب والشرق والشمال، ويعيد تثبيت نفوذها في معادلات المنطقة.