على طرقات غزة المحترقة، تسير قوافل النازحين حفاةً، يحملون أطفالاً مذعورين وحقائب فارغة، فيما الطائرات الإسرائيلية تمطر السماء ناراً فوق رؤوسهم. أصوات الانفجارات تختلط ببكاء النساء وصراخ الأطفال، والبيوت تتحول إلى ركام في لحظات. لم يعد في غزة مكان آمن، فالموت يطارد الجميع: من يفرّ جنوباً يواجه الجوع والعطش، ومن يبقى شمالاً يواجه القصف والدمار. إنها مأساة تُكتب بالدم والدموع، مأساة مدينة تُمحى من خريطتها البشرية حجراً وبشراً، أمام صمت العالم وعجزه.
غزة لا تُقصف الآن فحسب — إنها تُعاقب منذ عامين كاملين. منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، والصورة تتكرر كأنها إرسال إلكتروني مُبرمج: قصف يجتاح الليل، أبراج تُسوى بالأرض، ومدن تُفرّغ من أهلها تحت حجّة “العمليات العسكرية”. هذا ما لم يعد خبراً عابراً بل واقع يومي مستمر؛ واقعٌ يفرّخ خيارين مريرين فقط أمام سكان القطاع: إما الموت تحت الأنقاض أو السفر إلى حيث لا مأوى ولا ضمانات — التهجير القسري. لا توجد مساحات رمادية، ولا حلول وسطى تحمي المدنيين؛ الحرب هنا صارت حكماً إما بالإبقاء على الحياة أو بسلبها نهائياً.
اليوم، ومع استمرار القصف وتقطيع أوصال الخدمات، تتحوّل غزة إلى مفترق طرق قاسٍ: إما أن يُسمح للناس بالبقاء بحياة كريمة، أو تُرحّل أرواحهم قسراً عن أرضهم. لا يوجد خيار ثالث — وهذه الحقيقة هي مقياس الإدانة والمحاسبة لأي من يتفرّج أو يتغاضى.
نزوح قسري وسط المجاعة
موجات النزوح تتدفق يومياً من شمال غزة إلى جنوبها، في مشهد يُعيد للأذهان نكبات سابقة عاشها الفلسطينيون على مدار تاريخهم. آلاف العائلات تحمل ما تيسر من متاعها وتسير على الطرقات المهدمة، تحت نيران القصف وأصوات الطائرات، لتبحث عن مأوى في جنوب القطاع، حيث المخيمات مكتظة ومراكز الإيواء عاجزة عن استقبال المزيد. ورغم تقديرات إسرائيل التي تزعم نزوح مئات الآلاف، فإن الدفاع المدني في غزة يؤكد أن معظم السكان متشبثون بأرضهم، أو عاجزون عن الرحيل في ظل غياب مأوى ومساعدات إنسانية. ومع إعلان الأمم المتحدة الشهر الماضي المجاعة رسمياً في غزة، يزداد الخوف من أن يتحول النزوح إلى رحلة موت بطيء، حيث لا طعام ولا دواء ولا ماء يكفي الجميع.
دماء على الطرقات وصمت دولي
أعداد الضحايا تتزايد بشكل يومي. عشرات الشهداء يسقطون في كل غارة، معظمهم من النساء والأطفال، بينهم أسر كاملة طُمست من السجلات. تقارير طبية من مستشفى ناصر في خان يونس، وكذلك من مراكز إسعاف في دير البلح، تؤكد أن النظام الصحي على وشك الانهيار الكامل. لا أدوية، لا وقود، لا أسرّة كافية لاستيعاب الكم الهائل من الجرحى والنازحين. وبينما العالم يتفرج، يخرج الفلسطينيون من تحت الركام ليرددوا أن ما يحدث ليس مجرد حرب، بل عملية إبادة جماعية ممنهجة.
سياسة الأرض المحروقة
إسرائيل تعلن أنها تستهدف البنية التحتية لحماس، لكن الواقع على الأرض يشي بسياسة واضحة: الأرض المحروقة. تدمير الأبراج السكنية، ضرب المستشفيات، قصف المدارس ومراكز الإيواء، كل ذلك يجري تحت غطاء “العمليات العسكرية”. وفي المقابل، تصرّ حماس وفصائل المقاومة على أن صمود غزة، رغم الجراح، هو رسالة بأن المشروع الإسرائيلي لاقتلاع الناس وتهجيرهم لن يمر.
مشهد النهاية المفتوحة
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا تحت النار، بل رمز لصراع أوسع على الوجود والهوية. هي مدينة تُقصف على مدار الساعة، وسكان يُدفعون للنزوح القسري، وصرخات تُرفع للعالم طلباً للعدالة. ومع استمرار هذا التصعيد، تبدو الأزمة الإنسانية على حافة الانفجار الكامل، بينما يظل الموقف الدولي عاجزاً أو متواطئاً بالصمت، تاركاً المدنيين في مواجهة آلة الحرب وحدهم.