وسط دخان المباني المهدمة وصراخ الأطفال والنساء، تتواصل الطائرات الإسرائيلية في قصف الأحياء المكتظة بالسكان في قطاع غزة، مدمرة كل شيء في طريقها. منذ الساعات الأخيرة، أعلن الجيش الإسرائيلي تدمير 26 مركز إيواء، وأسفر القصف عن مقتل 74 فلسطينيًا بينهم سبعة من منتظري المساعدات الإنسانية. آلاف آخرون يعيشون بين القصف والموت بلا مأوى ولا ملاذ آمن.
تتصاعد الأزمة في الوقت الذي تحاول فيه إسرائيل فرض سيطرتها على مدينة غزة، أكبر مدن القطاع وأكثرها اكتظاظًا بالسكان، في ظل تزايد الدعوات الدولية لوقف العمليات العسكرية وإنقاذ المدنيين.
الموت في كل شارع
محمد عبد الرحمن، أحد النازحين من حي الرمال الجنوبي، يروي لحظاته الأولى للهروب:
"الطائرات تحوم فوقنا، القذائف تتساقط على كل شيء، الأطفال يبكون والنساء تصرخ. لم نجد مكانًا نختبئ فيه، كل شيء حولنا يتحطم. الطريق إلى الجنوب مليء بالقصف، ومناطق الإجلاء لا توفر سوى الخوف والموت."
برج الكوثر في شارع دمشق أصبح رمزًا للخوف في المدينة. الجيش الإسرائيلي أعلن أنه سيهاجمه بزعم وجود بنى تحتية لحماس داخله، ودعا السكان للإخلاء فورًا نحو "المنطقة الإنسانية". السكان، ومعظمهم لا يجدون مأوى آمن، يصفون الطريق بأنه مليء بالموت والدمار، مما يجعل الإخلاء شبه مستحيل.
في مستشفى الشفاء، يُطلق الجنود النار على المسعفين والنازحين، ما يزيد من المخاطر على المدنيين العالقين، فيما تكافح الفرق الطبية لإنقاذ حياة الجرحى وسط قصف مستمر ونقص حاد في المعدات الطبية.
أرقام النزوح والمأوى
الجيش الإسرائيلي يقدر عدد النازحين بأكثر من 250 ألف شخص، بينما يشير الدفاع المدني الفلسطيني إلى أن العدد الفعلي لا يتجاوز 68 ألفًا. العديد من النازحين لم يجدوا أماكن للإقامة، فيما يظل آخرون متشبثين بالبقاء في منازلهم رغم الخطر.
الأمم المتحدة أشارت في تقديرات أغسطس الماضي إلى أن عدد سكان مدينة غزة ومحيطها يتجاوز مليون نسمة، مما يجعل الوضع الإنساني هشًا للغاية. الغذاء والمياه والملاجئ مفقودة في كثير من مناطق النزوح، فيما يسعى السكان إلى النجاة بأي وسيلة، غالبًا عبر الخيام المكتظة أو الشوارع المفتوحة، وسط حرارة الشمس المستمرة وصوت القصف الذي لا يتوقف.
شهادات من الميدان
سارة الخطيب، متطوعة في الدفاع المدني، تقول:
"نحاول إنقاذ من نستطيع، لكن كل ثانية هنا تعني موت آخر. الجرحى بلا دواء، الأطفال بلا طعام، والموت يلاحق كل من يتحرك."
ليلى أبو عيشة، أم لأربعة أطفال، وصفت حالتها:
"هربنا من بيتنا وسط القصف، لم نأخذ سوى بعض الملابس والأطفال يبكون طوال الطريق. لا مأوى، لا ماء، لا دواء، ولا أحد يهتم بنا."
النازحون يتنقلون بين الشوارع والحدائق والخيام المؤقتة، بحثًا عن ملاذ آمن، فيما تزداد معاناتهم اليومية بفعل نقص الغذاء والماء والكهرباء.
الجيش الإسرائيلي يواصل استهداف المباني العالية بذريعة استخدامها لأغراض عسكرية، وهو ما تنفيه حركة حماس. في تصريح له على "إكس"، أعلن المتحدث باسم الجيش أن القصف يستهدف مناطق محددة في ميناء غزة وحي الرمال الجنوبي، بما في ذلك برج الكوثر وخيام قربه.
في المقابل، الجيش الإسرائيلي يشير إلى أنه ما زال هناك 47 محتجزًا في غزة من أصل 251 تم اختطافهم في هجوم أكتوبر 2023، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي في القطاع.
ردود فعل دولية وتحذيرات إنسانية
حذرت الأمم المتحدة والأطراف الدولية من أن الهجمات الإسرائيلية وعمليات النزوح ستفاقم الأزمة الإنسانية، خاصة بعد إعلان المجاعة رسميًا في غزة الشهر الماضي.
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أصدروا بيانًا مشتركًا الجمعة يدعو إلى "وقف فوري للعمليات العسكرية في مدينة غزة". وفي الوقت نفسه، تعتزم فرنسا وبريطانيا ودول غربية أخرى الاعتراف بدولة فلسطينية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما صوتت الجمعية العامة لصالح قرار إحياء حل الدولتين دون إشراك حركة حماس.
التصعيد يأتي في وقت تحاول فيه القوى الدولية إعادة ترتيب الأوراق السياسية في الشرق الأوسط، عبر دفع مسارات الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإحياء جهود حل الدولتين، وسط معارضة إسرائيلية مباشرة.
بينما تتواصل العمليات العسكرية، تزداد الضغوط على المنظمات الإنسانية لتقديم المساعدات، في وقت يشير فيه المراقبون إلى أن أي تأجيل في التدخل الدولي سيؤدي إلى كارثة إنسانية أوسع.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة تحت القصف، بل مقبرة مفتوحة لعشرات آلاف المدنيين والنازحين بلا مأوى. كل شارع يحوي قصة موت، وكل مبنى منهار يحمل ذكرى عائلة اقتُلعت من مكانها.
المدينة تواجه نزوحًا جماعيًا لم يُعرف له مثيل، ونقصًا في الغذاء والماء والدواء، ومستشفيات مكتظة بلا قدرة على الاستيعاب. وبينما تتواصل العمليات العسكرية، يبقى المجتمع الدولي عاجزًا أمام حجم المأساة، وتظل غزة رمزًا للمعاناة الإنسانية الحقيقية في القرن الحادي والعشرين.